رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المزيفون

ماهر مهران
ماهر مهران

أضرب فى حيرة كفًا بكف، وقد دارت بى الدنيا، وشح نور عينى، وجف حلقى، وعجزت عن أن أتخيل نفسى وأنا أقضى سنة فى الظلام والشقاء والذل خلف القضبان

التراب الناعم يتطاير، والزهور الفاتنة تكح، وتسعل، ويكاد تنفسها يتوقف، وأنا عاجز لا أقدر على هش ذبابة من فوق خد وردة أو برعم! فوزارتنا التى اكتظت بالمستشارين الذين يتقاضون مئات الآلاف من الجنيهات ترفض تعيين عمال نظافة جدد، ومديرو مستطيلات الضوء وجدوا أن حل مشكلة النظافة يقع على الحلقة الأضعف فى المنظومة، وهكذا أصبح أمر كنس وتنظيف ومسح مستطيلات الضوء مسئولية زهورنا الصغيرة، وبراعمنا البريئة التى تسعل وتكح أمامنا، ولا نقدر على فعل أى شىء من أجلهن! أتعاطف معهن لكن ليس بيدى سوى أن أمسك المكنسة وأكنس بدلًا منهن، الكل يعرف أن الطالبات هن اللائى ينظفن الفصول والطرقات، من الوزير حتى المعلم فى الفصل، والكل يضع عينيه فى الأرض، لأن أى كلام سيقال سيكلف الحكومة المال، ومال الحكومة يذهب مكافآت للمستشارين، ويذهب للصناديق، أما التلميذات فلهن رب يحميهن.

يتحدث زميل لى، كان مشعلًا للضوء ثم تحوّل إلى مثير للفتن، عن عمدة قريتنا الجديد بقرف، وعن ترعته الجديدة التى أفلست أهل قاوات، ويأخذ منه خيط الكلام إخصائى الزهور والبراعم الخشن القاسى، ويتحدث بغضب شديد وبصوت لا تحتمله أذناى عن أم العمدة التى تنتمى- على حد قوله- إلى أعداء قريتنا وخصومها، ويردد الكلام الذى أشاعته التيارات الرافضة والمعادية لجناب عمدتنا المبجل، ثم بصوت شاحب تتحدث ناظرة المستطيل عن الكلاب التى هجمت بالأمس على بيتها، وأخذت زوجها، ولم تتركه إلا بعد أن دفع عشرة آلاف جنيه عدًا ونقدًا، وأنا صامت لم تتبق لى حجة واحدة أدافع بها عن حضرة العمدة ودوره البطولى الوطنى فى إنقاذ هذه البقعة المظلمة من هجمات الرجعيين، وفظاظة مواقفهم، أو أهاجم بها الظلام الذى يكتفنى حتى يدخل خالى الذى لقّبه الناس هنا فى بلادى بالقنطرة، لأنه يجلس خلف الكمبيوتر فى مدخل بقعتنا المظلمة، ويُدخل الرقم القومى الخاص بأى مواطن، ومن يجد عليه حكمًا بالغرامة أو بالحبس يرسله غير مأسوف عليه إلى الظلام والقذارة والذل وقهر الرجال ونمردة حراس متسلطين، ولا يسمح لشقى أو مجرم مهما كان بالدخول إلى بقعتنا التى لا ينقصها ظلام أو شقاء مثلما كانت قنطرة بقعتنا التى ظلت آلاف السنين تحجز الأموات والغرقى، وتمنعهم من دخول بقعتنا.

أستغل وجود خالى القنطرة، وأطلب منه أن يكشف عن اسمى فى سجلات الأشقياء والمغضوب عليهم، فيملأ صدره بالهواء ويجعل أنفه تلتصق بسقف المكتب الضيق فى كبرياء ويأخذ بطاقتى العائلية، ويتصل عبر تليفونه المحمول بزميل له يجلس فى هذا التوقيت أمام الكمبيوتر يتصيد الأشقياء المارين عبر الطرقات، يعطيه الرقم القومى الخاص بى، ويطلب منه أن يكشف عن حالتى، يقول له: اكشف لى عن اسم المصرى عبدالراضى وهدان الطيب، ويعطيه الرقم القومى الخاص بى، ويوصيه علىّ، وهو يقول له إننى ابن عمته الغالى.

ينتظر، تمر خمس دقائق، وتتغير ملامحه، ونبرة صوته، ثم يكتب فى ورقة أمامه أرقامًا وتواريخ كثيرة ثم يغلق الخط، ويقول لى وهو يخط بالقلم تحت الأرقام التى كتبها إنه محكوم علىّ بسنة سجنًا، وغرامة أربعين ألف جنيه، وكفالة ألف جنيه فى الجنحة رقم ٨٤٨٦ لسنة ٢٠١٨ جنح مستأنف البدارى، يضحك زميلاى والناظرة بأعلى صوت، وبشماتة يقولان فى صوت واحد: 

آدى اللى دافعت عنهم!

أضرب فى حيرة كفًا بكف، وقد دارت بى الدنيا، وشح نور عينى، وجف حلقى، وعجزت عن أن أتخيل نفسى وأنا أقضى سنة فى الظلام والشقاء والذل خلف القضبان، بعيدًا عن زهرتى التى سيحدد هذا العام مستقبلها التعليمى، وبعيدًا عن برعمَى اللذين لا يطيقان الحياة دونى، وبعيدًا عن زوجتى عايدة التى تقوم من النوم مفزوعة ومرعوبة وخائفة وهى فى حضنى، فما بالك وأنا بعيد عنها ومنكفئ على نفسى فى بقعة بعيدة تلفها القضبان والخوف، ويحرسها الرعب والهلع؟! وقبل أن أهزم دهشتى يخبرنى بأن هناك جنحة أخرى محكوم علىّ فيها بسنة سجنًا أخرى، وغرامة تسعة وعشرين ألف جنيه، وكفالة مائة جنيه، ثم يطلب منّى كتابة هذا الرقم ٨٨١٥ لسنة ٢٠١٨ جنح البدارى، لا أعرف أأضحك أم أبكى؟ وبسرعة يضيف أن ستة أشهر سجنًا أخرى، وأربعة عشر ألف جنيه فى انتظارى فى الجنحة رقم ١٠٣٤٦ لسنة ٢٠١٨ جنح البدارى، يضحك زميلى مثير الفتن الذى لم أعرف حقيقته إلا بعد مرور خمسة أعوام وستة أشهر من العمل معه، ويضحك الإخصائى الغشيم والناظرة الماكرة كثعلب، ولا يصدقون ما حدث لى كمشعل للضوء ومؤيد لجناب العمدة ولرائحة التراب والطمى وأحجار المعابد العتيقة ومدافع عنهم، ويشمتون فىّ، ويتخذون ما حدث لى دليلًا على سعرة العمدة ونظامه ورجاله، أما أنا فأتخيل نفسى وأنا أقضى سنتين والنصف فى العتمة والقذارة والرعب، وأدفع كل هذه الأموال المطلوبة وأنا أساسًا مدين لطوب الأرض، ومرتبى ضئيل جدًا، ولا يكفى فاتورة الكهرباء والماء والخبز الحاف، ولا أصدق ما قاله لى خالى القنطرة الذى باع منذ سنوات سيارة الكسح التى كان يملكها ويعمل عليها، ودفع نصف ثمنها رشوة لوسيط كى يدفعها أو يدفع بعضها لمسئول كبير يعيش فى مدينة الضوء والمال والسلطة والصفقات، وينضم إلى عالم الحراسة كحارس صغير جدًا يجلس فى مدخل بقعتنا المظلمة الجنوبى فى كبرياء ضابط شرطة، ويصطاد الأشقياء مثلى كما يصطاد الثعلب فرائسه من الكتاكيت والدجاج والإوز والحمام!

الحلق يجف، والمفاصل ترتعش، والهم يوشك أن يفجر قفل رأسى، والنوم يخاصم العيون، والبدن يتضاءل ويخرط، والمال يعز، والعواء يزداد، والحيرة تأكلنى، ولا أدرى لماذا يُحكم علىّ بالسجن ثلاث سنوات؟.. ولماذا يحكم علىّ بدفع كل هذه الأموال؟! هل لأننى قلت للص: أنت لص، وللذى يعيش من عرق المساكين: أنت جابى ضرائب ومصاص دماء، وللشاعر المنافق: أنت تمتلك وجه أفعى؟! أم لأننى أعمل مشعل ضوءٍ فى بقعة معتمة؟ أم لأننى أظل طوال النهار أحمل الفضلات والبول والبراز من تحت منصات لم ينتبه أصحابها للبول والفضلات التى تراكمت أسفلهم وأسفل موازينهم؟

مقطع من رواية: المزيفون