رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كليوباترا

محمد عبدالقادر التونى
محمد عبدالقادر التونى

كانت السيجارة الكليوباترا محببة إلى نفسى، لم أرضَ بغيرها بديلًا رغم أن السوق تعج بأصناف كثيرة لا تُحصى، كنت أدخنها بشراهة؛ رغم أن بعض الأصدقاء كانوا ينظرون إلىّ بدهشة كبيرة واستخفاف وهم يتساءلون: كيف أننى لا أزال أدخن هذا النوع؟! حيث كانوا يستعرضون دائمًا بتدخين أنواع أخرى يرون أنها أعلى جودة وأغلى ثمنًا؛ فكنت أبتسم ولا أعرف كيف أجيب عن سؤالهم. 

أحيانًا كنت أسأل نفسى نفس السؤال عندما لا أجدها متاحة عند البقال؛ فكان يعرض علىّ أصنافًا أخرى، لكنى كنت أرفضها رغم حاجتى الماسة للتدخين. 

ربما كان هذا العشق يرجع إلى صورة الملكة كليوباترا التى تحلّى غلاف علبتها وتذكرنى دائمًا بهويتى وتاريخى المصرى المجيد، ربما.. لأننى كنت أشعر براحة نفسية وأنا أنظر إلى عظمتها وتاريخها المجيد. 

بعد أن ارتفع سعر السجائر فى الأيام القليلة الماضية أصبح تدخينها يمثل لى ثقلًا لا أتحمله من باب النفقات ففكرت فى بدائل أخرى، ولا أقول إننى فكرت فى الإقلاع نهائيًا عن التدخين، لأننى كنت أتصبر بها على القراءة والكتابة وأنها كانت تعيننى على التفكير، ولذلك فكرت فى بدائل تكون أقل تكلفة وتؤدى نفس الغرض؛ فكان هناك خياران: «النارجيلة أو المضغة»، وكان هناك خيار ثالث لكننى استبعدته تمامًا وهو «اللبان»، لأنه شبه محرم على الرجال فى صعيدنا، إذ يرون أنه خاص بالنساء فقط! رغم أننى كنت أرى الرياضيين من المدربين يلوكونه بصورة مستفزة أثناء متابعتهم مباريات كرة القدم كوسيلة رياضية لتنشيط عضلات الفكين والوجه والرأس، إلى جانب فوائده النفسية فى المساعدة على التخلص من الانفعالات بدلًا من الضغط على الأعصاب.

أما «المضغة» فبرغم ما حازت عليه من شهرة فى ضبط الدماغ، حتى إن التراث الشعرى الشعبى خلدها منذ القدم بقولهم: 

تريكى يا مضغة تردى الراس 

عطرون حر زاقى 

لا قديكى مطبق ولا قراص 

ولا فطير بالتساقى. 

وبرغم ذلك فإننى كنت أراها مقززة بالنسبة لى، إذ تظل مكومة فى الفم لفترة طويلة، علاوة على إفرازاتها الكثيرة التى تحتاج إلى البصق فى أى اتجاه، لذلك فإنها تحتاج إلى متسع من المكان مثل البيئات الزراعية، وهو ما لا يتوفر لى وأنا منكب على كتبى فى داخل البيت، ولذلك عدلت عن فكرة «المضغة»، ورأيت أن «النارجيلة» هى الأفضل والأنسب. 

كنت شبه متوقف عن القراءة والكتابة؛ لأن كل تفكيرى كان مركزًا على هذه البدائل التى تعيد إلىّ توازنى، وتساعدنى فى التصبر على حالات الإبداع حتى أنتهى من العمل الذى أريد إنجازه. 

ولأننى لست من رواد المقاهى؛ اشتريت واحدة للاستعمال الشخصى فى البيت، كانت مجهدة إلى حد كبير فى إعدادها، فى تنظيفها، فى موقد الفحم بعيدًا عن الأولاد، فى استعمالها، لأن رائحتها تطوق المكان. 

كنت أتحاشى أن أكلف زوجتى فعل شىء من هذه الأشياء، لذا كنت أفعل كل شىء بنفسى، بل كنت أتحاشى أن يرانى أحد الأبناء حتى لا يقلدنى فى يوم من الأيام، ولذلك اتخذت لى غرفة مستقلة فوق السطح لهذا الغرض. 

فى البداية كنت أسعل منها كثيرًا، وكنت لا أجد فيها ما يعوضنى عن السيجارة حتى وإن مكثت ساعة كاملة وأنا أسحب فى دخانها، لكن مع مرور الوقت تكونت ألفة بينى وبينها، وبدأت أشعر معها بالتركيز فى القراءة والكتابة ولحظات التفكير. 

وفى يوم من الأيام، وأنا أعد لقراءة قصة «موجة لا تعود للبحر» للكاتبة/ فاطمة الشريف، تمهيدًا لكتابة مقال عنها، حيث قمت بترتيب وإعداد أدواتى، ووضعت النارجيلة بالقرب منى، وقمت بإشعال الموقد ووضعت فيه الفحم اللازم لحرق ما يكفينى من المعسل طوال فترة القراءة، وجلست أقرأ ريثما يستوى الفحم فى النار. 

كانت القصة مشوقة إلى حد كبير، وتناقش موضوعًا غاية فى الأهمية، كانت القصة تحكى أشياءً كثيرة عن أم تحكى مع وليدها الذى ولدته فى الصيف الماضى عن الأحداث التى تمت أثناء فترة الحمل وكيفية معالجة هذه المواقف والأحداث، 

لكن ما شدنى فى القصة، وجعلنى أمسك بخرطوم النارجيلة وأضعه فى فمى وأسحب منه الدخان بكل ما أوتيت من نفس، هو أن الجنين لا يرغب فى الحياة، ويرى أنه لا جدوى منها، فحزنت على الأم التى تنتظر فرحتها، وماذا سوف تفعل مع هذا الجنين؟! 

لكننى بُهرت بصبرها، وقوة إرادتها، وثقافتها، ووعيها، وهى تحاول مع جنينها فى أن تهدئ من روعه، وتغرس فيه حب الحياة من خلال وسيلتين غاية فى الأهمية سماع القرآن، وموسيقى قديمة لموزارت، وبهما استطاعت الأم أن تُرغب جنينها فى الحياة. 

وما إن انتهيت من القراءة، حتى شعرت بشىء من السعادة يتسرب إلى جسدى، وشعرت معه بشىء من الاسترخاء، فتركت خرطوم النارجيلة من يدى حتى أمدد جسدى وأستريح.

لكن ما أدهشنى: أننى طوال فترة القراءة التى كنت أمسك فيها بخرطوم النارجيلة وأسحب منها بكل ما أوتيت من نفس لم يكن هناك فحم فوقها.