«وحتى آخر خيط من ضوء»
ومن جماليات الحكاية أن تبقى مبهمة..
أفكر فيما قاله المهرج على خشبة المسرح، كان يتراقص بخفة غير عادية، ما إن ينتقل بقدمه للقدم الأخرى، لا تكاد تلامس إحدى قدميه الأرض، قلت فى نفسى: إذا لم تجد مبررًا للطيران، فلمَ تجازف؟ ربما جناحاك تطيران، والرياح القادمة أشد من قوة تحليقك، ويصفق الجمهور، ذهنى مشوش من ضجة المتفرجين، يتفاعلون مع كل حركة راقصة للمهرج، يودون لو أنهم يتقافزون معه على المسرح، وصفق الحضور ثانية.
المهرج يسكن تمامًا، لا يحرك غير رقبته، يمينًا ويسارًا، يذكرنى بدمية تعلق رقبتها فى منتصف الجسد، والجسد ساكن، وفكرت فى وضع القلب هذه اللحظة الراكدة، أخذ يدور برأسه، تتساقط دمعات من عينيه، دون أن تتغير ملامحه، تتساقط وتتساقط، أصبحت أكثر غزارة، وكلب ينبح يشد بنطاله بفمه، الجسد ساكن تمامًا، وطائر يقف على كتفه ولا يتحرك، طفل يضع يده فى جيبه، يأخذ نقوده ولا يتحرك أيضًا، يدور ويلتف هكذا، يقوم أحد راكبى السيارات بجذبه بعيدًا حتى يفسح له الطريق، وهو ساكن لا يتحرك، فقط تتساقط دموعه، الجمهور أيضًا ساكن، يرتسم على ملامحهم الحزن، لكنهم أيضًا لا يتحركون.
الحكاية لم تكتمل، ما دام أحد أطرافها لم يرو طرفًا منها.
كان يقف فى المنتصف يردد هذه الكلمات، النقطة التى تضىء المسرح باهتة، كلما اتجه فى أى مكان تحركت معه النقطة، فلا يستطيع أداء دوره دونها، يلحقه ظله، أصبح حائرًا بين الضوء والظل، عقد حاجبيه يمرر أصابعه حول ذقنه، ويطرح سؤالًا: هل الضوء أقوى أم الظل؟ ومن الذى يتبع الآخر؟ يضحك المتفرجون بلا سبب للضحك، وكأنها شحنة ضحك مخزنة فى السابق ككل الأشياء المسبقة للحدث، وجلس المهرج على أرض المسرح، ينتظر إجابة من جمهور أتى ليمارس عادة الضحك وينصرف.
أحرص على الجلوس فى الصف الأول، تضايقنى رؤية رءوس متفاوتة فى كثافة الشعر أمامى، وبعضها صلعاء، أريد الرؤية بوضوح، وحتى أستطيع التمكن من هذا جلست فى المنتصف، أنظر مباشرة فى عين الممثل، يشغلنى مدى تقمصه للدور، وإقناعه للجمهور، كما لا أكف عن كتابة بعض الملاحظات والنقد، رغم أننى كأى متفرجة فى الصالة؛ أتيت لإطلاق سراح الضحك قليلًا وأنصرف.