رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مذكرات السعادة

البحار الروس
البحار الروس

بعد أن وصل إلى الأربعين؛ قرر كتابة كل ما اعتبر أنه لزم تحقيقه قبل عشرين عامًا.. لكنه لم يدوّن هذا الماضى المتخيل كتقرير نادم من المتع المهدرة التى لا سبيل لتعويضها بل كمذكرات لشخص عاش هذه السعادة بالفعل.. ظل يكتب على فترات متباعدة مشاهد تلك الحياة المختلفة التى كانت جديرة بأن تحدث منذ زمن طويل باعتبارها تجارب حقيقية، حتى بدأت مواعيد التدوين فى التقارب.. أصبحت طقسًا يوميًا لا يمكن إهماله ثم استمرت فى التمدد إلى أن هيمنت على كامل أيامه المتعاقبة منذ استيقاظه فى الصباح الباكر، وحتى عودته للنوم آخر المساء.. لم يعد يفعل- باستثناء الأداءات الضرورية الأخرى- سوى كتابة أدق تفاصيل ما يدعى أنه قام به حقًا قبل عشرين سنة، وبذلك لم تعد لديه حياة خارج هذه المذكرات.. أصبحت مذكراته عمرًا أصليًا كلما استمر فى تدوينه وكلما أمعن فى إزاحة واقعه المتعيّن نحو هامش أقرب إلى النسيان.

لكنه بشكل مفاجئ، وبينما كان يكتب وقائع أحد الأيام المتخيلة؛ وصل إلى لحظات مقبضة، أيقن أنها تمهيد لموته.. وصل إليها بلا قدرة على التراجع أو النجاة، ودون أن يستوعب سر هذا العجز، بالرغم من أن تلك اللحظات لم تكن سوى كتابة فحسب.. مع ذلك كان يدرك أن تلك الماهية تحديدًا هى ما يجعلها تجهيزًا لموت فعلى.. إنها لحظات اقتراب حقيقى من نهاية حتمية لكونها مكتوبة بيده.. هل كانت لحظات مغايرة لتلك التى يتصوّر أنها ستسبق موته فى الواقع؟.. كان جحيم تلك اللحظات يكمن تحديدًا فى الإجابة على هذا الاستفهام.. الإجابة التى استقرت كصدمة من قبل أن يحضر الاستفهام فى ذهنه محترقًا باليأس.. أيقن أن التمهيد الكتابى لموته متطابقًا مع ما كان يتوقعه لموته الواقعى.. تنتهى حياته المدوّنة مثلما تنتهى حياته الواقعية؛ بلا أى أثر ولو شاحب للمتع المتخيلة.. دون أن تغيّر السعادة التى عاشها كأحلام لغوية من الأمر شيئًا.

لم يعد لديه سوى أن يعود إلى وصيته التى كان قد فرغ من توثيقها منذ وقت بعيد.. من قبل أن يبدأ فى تدوين الأيام التى تظاهر أنه عاشها فعليًا منذ عشرين عامًا.. راح يدمج كلمات تلك الوصية بلحظات ما قبل موته فى الكتابة.. وبعد أن انتهى بقى صامتًا.. أوقفه الموت المكتوب الذى أدركه عن استعمال المزيد من الكلمات.. ليست الكلمات التى يخطها فحسب وإنما التى ينبغى أن ينطقها أيضًا.. ظل الآخرون يحدثونه بصورة عادية كأنه يجيبهم.. كأنه يتكلم مثلهم.. لكنه كان واثقًا من أنه ما عاد يستطيع النطق حتى لو اعتقد من حوله غير ذلك.. كان يرى فحسب.. كأن جسده كله قد تحوّل إلى عينين زجاجيتين، لكل عين منهما ذاكرة مختلفة، ولكنهما لا تبصران طوال الوقت إلا نفس الطفل وهو يجرى ضاحكًا ليصعد سلالم جسر مرتفع فى ظهيرة ساطعة قبل أن يختفى عند قمته.