رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

(إسرائيل): مُنحنى العنف وآليات التفكيك (1)

 في مقدمة بقلم المؤرخ والسياسي والكاتب الفلسطيني الكبير، الأستاذ "عبدالقادر ياسين"، لكتاب بعنوان "حاخامات وجنرالات: الدين والدولة في إسرائيل"، صدر لي في مُنتصف عام 1996، وتناول ـ بالشرح والتحليل ـ أوضاع ومآلات العلاقة المُرَكَّبة بين المجتمعين: المدني والعقائدي في دولة الاغتصاب الصهيوني، كتب، وكأنه يقرأ المجهول ويتنبأ بالمُستقبل: "لا أخالني أُبالغ، إذا ما رأيت أن الدين والعلمانية دخلا مواجهةً داميةً داخل الكيان الصهيوني، وستُفضي هذه المواجهة إلى إعادة توزيع المواقع داخل هذا الكيان، كما أنها ستُعيد صياغة الفكر الصهيوني من جديد، بيد أن ذلك التوزيع وهذه الصياغة لن يتم بدون صراعٍ مُحتدمٍ دامٍ من الصعب التنبؤ بنتائجه، أو احتوائها".

   ومصداق صحة هذا التوقُّع الذي مثَّلَ محور ذلك الكتاب، تلك الأحداث التي تضج بتطوراتها المُتفاقمة داخل الكيان الصهيوني، منذ شهور، وتكاد تشق المجتمع الإسرائيلي الهجين إلى نصفين، أو مُعسكرين يتصارعان ـ بضراوةٍ غير مسبوقةٍ ـ على مسارات التحوُّلات الأيديولوجية (الفكرية) وتجلياتها العملية (السياسية والاقتصادية والثقافية)، وتجسُّدات هذه التحولات وتلك التجليات في البرامج والخطط والتحالفات والتحركات التي ستطبع المُستقبل الإسرائيلي، فضلاً عن مُستقبل الوجود العربي، وتترك بصماتها الواضحة على الوسط المُحيط، وبالتحديد على مُستقبل الصراع الفلسطيني الصهيوني (والعربي رغم ظاهر التوافقات)، وكذا على علاقة الكيان الصهيوني بمصر والمنطقة الواسعة، التي يُطلق عليها "الشرق الأوسط": القديم و(الجديد)، التي تعج بالمتناقضات والثروات والصراعات، المخفية والمُعلنة.

                                                                                                   
                                                                                            **
   والحق أن هذه الصراعات البينية، أو الهيكلية داخل الكيان الصهيوني ليست بالأمر الطارئ أو الشأن المُستحدث في التاريخ الإسرائيلي المُعاصر، فمنذ أن صعد حزب "الليكود"، اليميني إلى سُدة الحكم، مُتكئاً على تحالفٍ وثيقٍ مع الاتجاهات الأصولية الدينية المُتطرفة، وسيطر على قمة السلطة، في الفترة بين عامي 1977 و1988، بعد عقود طويلة من حُكم حزب العمل (اليساري)، ثم استبداله بتحالف هش، عُمَّالي/ (يساري)/ عربي (ممثلين من عرب الأرض المُحتلة، بفارق ضئيل للغاية لم يتعد صوت واحد أو صوتين، حتى استقر الوضع منذ انتخابات الكنيست الرابع عشر (مايو 1996) باتجاه تدعيم الصعود المُستدام لتحالف اليمين السياسي مع اليمين الديني، وتراجع الملامح (العلمانية) المزعومة في المجتمع الصهيوني، التي كانت تنسب المشروع كله إلى روح الحضارة (الديمقراطية)، بادعاء أن الكيان المُغْتَصِب يحمل في طياته مُثل الغرب (التقدمية)، وباعتباره "الواحة الديمقراطية" الوحيدة في صحراء الاستبداد العربي القاحلة، وهو أمر يتماشي مع الترويج الإمبريالي الغربي للمشروع الصهيوني للتستر على غاياته الاستعمارية الأساسية.

***
    لكن هذا الوضع، في واقع الأمر، يحمل في طياته كذبة كبيرة، أو خديعة مُستترة / مكشوفة، فما كان لمشروعٍ قائم على سياسات الطرد (الترانسفير) والإحلال؛ الطرد لأصحاب الأرض الأصليين، وإحلال المستوطنين الغرباء محلهم، استناداً إلى سياسات البطش والقهر و"الأبارتايد"/ (الفصل العنصري)، أن يكون مشروعاً علمانياً أو تقدمياً أو تحررياً، مهما اكتسى من أثواب مُزركشة، وخدع البعض بمظاهر زائفة للتقدُّم، رغم ارتكازه إلى مُمارسات القوة الغاشمة والعنصرية السافرة، في ظل تجاهل أمريكا والغرب ودعمهما، وقلة حيلة العرب واستسلامهم، وقد عبَّرَالحاخام "كوك" الإبن، في فترة مُتقدمة، عن جوهر رؤية هذه التيارات الدينية اليمينية المُتطرفة، المهووسة بفكرة إعادة بناء "هيكل سُليمان"، وعقيدة "انتظار المُخلِّص"، للوضع في فلسطين: "إن هذه البلاد لنا، ولا توجد هنا أي مناطق عربية، بل أراضي إسرائيل.. تراث الآباء الخالد، وهي ـ في جميع حدودها الواردة في التوراة ـ تابعة للحُكم الإسرائيلي"!
*** 
   أما "الحدود الواردة في التوراة"، فيمكن الرجوع إليها في متن الكتاب (المُقدَّس)/"التوراة"، المُعتمد لدى هذه التيارات العنصرية شديدة التطرُّف، والقائل: "في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أُعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى  النهر الكبير نهر الفرات" (سفر التكوين 18:15)، ووسيلة "الاستحواذ" الكُلِّي على هذه الأرض "الموعودة" ـ كما تُرشد "التوراة"، هي العنف والبطش والإرهاب والهمجية السافرة، في مواجهة كل من يعترض طريق تنفيذ هذا الحلم المجنون: "إن لم تطردوا سُكَّان الأرض من أمامكم يكون الذين تستبقونهم أشواكاً في عيونكم ومناخس في جوانبكم ويُضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها فيكون أن أفعل بكم كما هممت أن أفعل بهم" (سفر العدد 33 ـ 55 و56)!
    وهذا الأمر هو الذي دفع "أرنولد تويني"، المؤرخ البريطاني الشهير، لأن يقول: "إن مأساة التاريخ المُعاصر لليهودية يتلخص في أنه بدلاً من اكتساب درس من مُعاناتهم، يتعامل اليهود مع العرب مثلما تعامل النازيون معهم"، ومن هذا المُنطلق، واستناداً إلي هذا المنطق المعكوس، جرى اعتماد ما يُمكن أن يُسمّى "مبدأ دايان"، الذي أعلنه وزير الحرب الصهيوني "موشيه دايان" في أعقاب نتائج "5 يونيو" المشؤومة: "ولمّا كان عندنا كتاب التوراة  BOOK OF THE BIBLE، ونحن أهل الكتاب PEOPLE OF THE BIBLE، يُصبح لدينا أيضاً "أرض التوراة LAND OF THE BIBLE، أرض القضاة والآباء، في القدس والجليل وأريحا وجوارها"!، واللافت للانتباه أن مَن تحدَّث بهذا المنطق، وتبنى هذا المنظور، أحد أقطاب حزب "العمل" الصهيوني، حزب "ديفيد بن جوريون" و"إسحاق رابين"، الذي رُوج له باعتباره "حزب اليسار الإسرائيلي"، ومُنفذ المشروع الصهيوني، الذي هيمن على مفاتيح السياسة الإسرائيلية منذ اغتصاب فلسطين ولعقودٍ طويلة!  
***
   والآن: لا يكاد يمر يوم إلَّا ويتعرَّض أبناء الشعب الفلسطيني إلى عدوان إرهابي عنصري مُروع جديد، في سلسلة الاعتداءات الهمجية التي تُشن لبث الرعب والإحباط في نفوس ومعنويات أصحاب الأرض والقضية، ولدفعهم دفعاً إلى اليأس، لا من جدوى نضالهم وحسب، وإنما من جدوى وجودهم الموضوعي ذاته، ولإجبارهم على الاستسلام الكامل للأمر الواقع، الذي يتصدره مشهد العالم اللاهي عن القضية العادلة التي بلغت اليوم من العمر عتياً: ثلاثة أربع القرن، والعالم كله "ودن من طين وودن من عجين"، بل وبني جلدتهم من الأهل يديرون لهم الظهر، ويهرولون للارتماء في أحضان "عدو الأمة"، تحت مزاعم وتَوَهُمات شتى! 
   وآخر تجليات هذه الوقائع الإجرامية، وفي توازٍ مع اجتياح قوات الاحتلال جامعة "بير زيت" شمال رام الله، واعتقالها سبعة طلاب، وقيامها بتخريب مُحتويات الجامعة ومُمتلكاتها، فيما وصفته إدارة الجامعة "بالانتهاك الكبير والواضح لكافة الأعراف والمواثيق الدولية التي تُجرِّم انتهاك حُرمة الجامعات والمؤسسات التعليمية"، اجتياح مئات من قُطعان المستوطنين المُسلحين، بقيادة عضو "الكنيست" المُتطرِّف، الإرهابي "يهودا جليك" حرمة المسجد الأقصى، عشية "يوم الغفران" اليهودي، حيث "قاموا بأداء طقوس تلمودية، واستمعوا إلى شروحات عن "الهيكل" المزعوم"! (الأهرام 25 سبتمبر 2023).
***
بعد أيام تحل ذكرى حرب أكتوبر المجيدة، التي أزاح بها الشعب المصري وجنوده الشُجعان عار الهزيمة، وفي ظل التهديدات التي تُحيط بمصر من كل جانب، فإن شعارنا يجب أن يظل: "خلِّي السلاح صاحي"، والمثل يقول: "إن كان عدوك نَمْله... فلا تنمْ له"!
.........................
*الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري.