رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رواية.. حصار الحمام الأبيض

السيد نجم
السيد نجم

مقولة «أن تصبح رقمًا راجت، لم يردّدها الجن من قبل، ولا بشرى طوال تاريخه، منذ آدم حتى سالم، أخيرًا فهم الشاب الغر هو وأبناء جيله.. وصفوا جيلًا بأكمله بجيل الإحباط والهزيمة، جيل النكسة، جيل الحصار. أصبحت المقولة بوصلة شيدها ورفعها على الأكتاف أفراد الجيل نفسه.. فاستشهد بعض أفراده، أصيب ولم يشف تمامًا البعض الآخر، تم تسريح بعض ممن بقى منهم حيًا بعد النكسة، وفورًا بدأ يعافر ويغزل شرنقة معارك حرب أخرى.

مع كل الصعاب والعوائق، يرجون الخلاص من غمائم الحصار القديم، أطلقوا على أنفسهم:

«جيل الصامدين والنصر».. مفادها تحدى الجن وأربابه.

 

انقشعت كومة السحب عن سماء مركز التدريب، وانقشع الرقباء بين أرجاء المكان، واللافت أن انقشع بعض الشعور بالهم من القلب.. يحفنا الرجاء والأمانى بحياة أهدأ فى الأيام المقبلة. بالأمس فقط انتهت فترة التدريب الأساسى وفرقة الحصول على رتبة رقيب طبى «شاويش»، وهى لو تعلمون رتبة معتبرة فى الميرى القح، بدت لى تلك الفترة والانتهاء منها.. وكأننى ولدت من جديد، لن يضيرنى ما سوف أواجهه فى وحدتى الجديدة على جبهة قناة السويس.

هوّن علىّ كثيرًا، وإن لم يعفنى من بطشها تمامًا، كان انشغالى وشرودى مع عدم قبولى خبر زواج «أميرة» من «أكثم». الدوامة التى سقطت فيها عصيت على التوقف، منعتنى من التأمل والبحث عن الأسباب والنتائج، كما حال أغلب الزملاء، ومع ذلك لم أسقط من رأسهم.

كل الرفاق وزملاء دفعة التجنيد يلوكون تفاصيل حكايتى التى لا أعرفها، تأكدت من ذلك، كلما نظرت فى بؤبؤ عينى أحدهم سألنى بخبث: «ما أخبار أميرة يا سالم؟».

دقّ ناقوس الرحيل إلى زمن غير الزمن ومكان آخر مجهول وغامض، كل الإجراءات الإدارية أنجزها الشاويش «رضوان» مندوب مستشفى السويس العسكرى فى مقره المؤقت فى منطقة «الروبيكى»، بعد أن أصبح هدفًا لنيران العدو فى مدينة السويس! تسلم مندوب وحدتى الجديدة كلّ الأوراق والعهدة، أو تسلم أوراق «النمرة الجديدة».. لقب رددوه كثيرًا فيما بينهم فى أثناء إنجاز المهمة. هكذا أصبحت مع غيرى من المجندين «نمرة»، لم أتوقف أمامها طويلًا.. تبدو آلية الحركة وروتين دولاب العمل لكل من رأيتهم فى مركز تجميع المجندين ومركز تدريب الخدمات الطبية، وأكيد فى كل وحدات هذا العالم المسئول عن الحرب والسلام وأمن البلاد، تحركه قوة جهنمية غامضة، لا يجب التوقف أمامها لتفسيرها أو معرفة هويتها، فقط هى قوة ذاتية تطوينا، ونتداولها فيما بيننا، وكلنا على قناعة بأعرافها وتقاليدها وقوانينها.. بعد هذا كله أعترض أن يطلقوا علىّ لقب «نمرة»؟!

نظر الشاويش نحوى متسائلًا مع بسمته الغامضة، التى لم يسقطها عفوًا أو جبرًا، سخرية منى أم بلاهة فيه.. لا أدرى: «أين المخلة»، لم ينتظر.. وتابع: «خبرتى فى تسلم الأفراد الجدد تدفعنى للسؤال عن المخلة قبل الفرد نفسه، فهى أول ما أثبت به تمام مهمتى، عندما يسألنى حضرة الصول عن تمامها. ثانية عاد وضحك وحده: «خصوصًا أن أول إجازة لك ليست قبل شهر كامل». اختفت بسمته الخبيثة أو الطيبة ولا أدرى، لم أفهم معناها بعد، زادت مشاعر القلق التى راودتنى.. كيف أتحمّل ثلاثين يومًا فى الجبل هناك؟».

كانت كلماته كلها كما الطنين باهتة غير واضحة، إلا كلمة واحدة «يا شاويش».. ظننت أنه يتحدث عن غيرى، نسيت أننى أصبحت شاويشًا بحكم فرقة الرقباء، أصبحت أحمل رتبة «رقيب طبى».

أول ما انتبهت إليه فور خروجنا معًا من باب مركز الخدمات الطبية، نظر رضوان نحوى- فيما بعد تنبهت أنه يحمل شريطين وليس مثلى ثلاثة شرائط- متسائلًا: «تحب ننتظر سيارة ميرى توصلنا لمنطقة ألماظة، أم نأخذ تاكسى على حسابك.. لن تستطيع ركوب الأتوبيس بالمخلة.. هى المخلة إذن التى تقود المجند إلى عالمها منذ اليوم الأول له فى حياة الجندية، لم أتردد: «تاكسى طبعًا».. ببساطة ابتسامته التى لم تسقط من فوق سحنته السمراء علق: معك فلوس.. عداد التاكسى ليس أقل من نصف جنيه.. ممكن أوقف أى سيارة ميرى متجهة إلى ألماظة توصلنا، عادى حكاية معروفة، وعلى فكرة أغلب السواقين الميرى على خط السويس يعرفوننى من كثرة ترددى على الخط منذ ١٥ ديسمبر ١٩٦٧، بعدما عدت مع وحدتى من اليمن!.

انتبهت له: «أنت كنت فى اليمن؟».. فتابع وهو يلوح لسيارة أجرة مقبلة: «كنت، أمضيت نحو ثلاث سنوات هناك».. اقتربت من السيارة التى توقفت وأنا أهمس فى أذنى: «أنت حكاية يا أمباشى رضوان».. ما إن بدأت أهمّ برفع المخلة لإلقائها على سطح السيارة، صاح السائق: «على فين يا دفعة؟» فأجاب رضوان عنى: ألماظة يا باشمهندس.. رايحين الجبهة إن شاء الله.. فإذا به يهم بتحريك فتيس السيارة، قائلًا: «آسف أنا حدودى السبع عمارات».

تحرك وحده ولم ينتظر تعليقًا.. وكانت بسمات «رضوان» تجيب حتى بدأ لسانه ينطق: «بعض سواقى سيارات الأجرة يهربون من الازدحام والارتباك هناك فى ألماظة، خصوصًا أن بعض الجنود الواصلين من السويس يتشاجرون معهم، لأنهم يزيدون أسعار البنديرة أو العداد؟».

وجب علىّ الصمت حتى أفهم، تابع وحده: «شوق النفر مننا لبيته وعيلته وأهله فى الإجازات لا نظير له، لكن أحيانًا السائق يستغل الحكاية ويرفض تشغيل البنديرة أو العداد ويطلب مبلغًا كبيرًا، وأحيانًا يرفض التوصيلة؛ لأنها بعيدة عن منطقة مصر الجديدة، الأسباب أو المبررات كثيرة، والنتيجة تهور بعض الجنود وكسر أقرب لوح زجاج أو مرآة فى السيارة.. وتبدأ الخناقة. طيب والبوليس؟

أمين شرطة صغير يفض المشكلة.

هناك طاقم الشرطة المدنية من الضباط والعساكر الصغار، سوف تراهم داخل المقهى يدخنون.

ثم تابع: ويشربون الشاى على حساب صاحب المقهى.. ولما لمح الدهشة تعلونى تابع: «الحكاية أنه منذ فترة حدثت مشاجرة بين الشرطة المدنية والشرطة العسكرية، بسبب اعتراض ضابط الأمن على سلوك عسكرى ميرى، وهو ما اعتبرته الشرطة العسكرية اعتداءً على هيبة الكيان العسكرى فى البلاد؟ وصارت مشكلة حلها عند الكبار من الطرفين، قال كبير الشرطة العسكرية: «الجندى الذى يرتدى الزى العسكرى تبعى.. والباقى تبعك».. فابتسم الكبير الأمنى ولم ينطق، أدار وجهه ناحية المقهى، ومن خلفه رجاله.. ومنذ ذلك اليوم لم تحدث مشاجرات بين القوتين».

فلما وصلا ألماظة، واصل «رضوان» حكاياته التى لم أتابعها، وعلى غير التوقع ابتعد صوته، ابتعد نحو خمسة أمتار، كان يعدو وحده مع غيره يعتلون السيارة الزل الميرى المتجهة نحو السويس، فلما لم أتبعه، غضب الشاويش مندوب الوحدة الجديدة، لكنه تفهم ما كنت عليه من ارتباك، فلم يسألنى عن سبب عدم ملاحقة الجنود نحو مؤخرة السيارة، قال:

«اسمع يا دفعة، أنت فى الجيش وهنا منطقة ألماظة تعتبر على الجبهة، وعليك أن تتصرف كما يتصرف الجميع حتى تنجز أيامك وتعدى الأيام السوداء من غير عكننة».

لم أجب، فقط كنت قبله أعتلى أول سيارة زل على الطريق إلى السويس، وسط كومة من الجنود، ولم أشك كثيرًا من المخلة، وجدت أكثر من يد ترفعها وتدفعها قبلى، كدت أفشل فى اعتلاء السيارة لسوء تصرفى فى التسلق، ويحدث ما لا يحمد عقباه مع اقتراب غروب شمس اليوم الشاق.