رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مرويات

خيرى شلبى
خيرى شلبى

ما كنت أحسب أن الحال يمكن أن يتدحدر بى إلى حد قبول السُكنى فى وكالة عطية، بل ما كنت أتصور أننى قد صرت صعلوكًا حقيقيًا ومن زمرة الصيّاع القراريين، إلى حد أن أعرف مكانًا فى مدينة دمنهور اسمه وكالة عطية، إذ هو مكان لم يكن ليخطر لمثلى على بال مطلقًا، ولم تكن لتقودنى قدماى إلى هذا المكان البعيد المتطرف، الذى قد لا يعرفه أبناء المدينة أنفسهم، الذين جابوها من أقصاها إلى أقصاها وعرفوا كل خرم إبرة فيها.. لولا أننى- فيما اتضح لى- قـد ضربت الرقم القياسى فى الصعلكة والصياعة واللف على غير هدى.

المفروض أننى طالب بمعهد المعلمين العام، أقصد كنت كذلك قبل ما يزيد على عامين، كنت على وشك أن أصير مدرسًا بعد عام واحد، حيث أظهرت تفوقًا فى دروس التربية العملية وفى نظم التدريس ومناهجه الحديثة، إلا أننى رُزئت بمدرس للرياضة كان سخيفًا وسمجًا وابن زانية: لم يعجبه أن أبناء الفلاحين المعدمين القادمين من القرى والعزب أشبه بالجرابيع الحفاة يمكن أن يتفوقوا فى التعليم على أبناء المدارس الأصلاء من أبناء الذوات والناس الطيبين، فصار يتصدى لى فى كل امتحان، يتحدانى بالنظرات الخشنة القاسية، يحرر لى محضرًا كلما اعتدلـت فـى جلستى أو كححت أو تلفّتُ حوالى طالبًا من أحد الزملاء مسطرة أو فرجارًا أو أستيكة، تلك الأشياء التى لا أذكر أننى اقتنيتها أبدًا طوال أيام الدراسة. وكان هو ممرورًا من هذه الناحية، وممرورًا أكثر من أننى لم أشترِ أى كتاب طلبه أو كراسة مربعات أوصى بضرورتها، فما كان منه إلا أن منع الجميع من معاونتى بأى شىء، بل عاقب بالطرد زميلًا سرّب إلىَّ فرجارًا، ثم راح يتفنن فى إهانتى، فرحت أوجّه إليه النظرات حاقدة مكبوتة، بدرجة أغاظته جدًا، فسحب ورقة الإجابة بيضاء ثم- بكل بساطة وصلف- طردنى.. وقفت مسمرًا فى مكانى أنتفض من الغيظ، ولا بد أن عينىَّ كانتا توجهان إليه سهامًا حارقة، إذ كشّر عن أنيابه قائلًا:

- «بتبص لى كده ليه ياد انت؟ مش عاجبك!».

جعلت أواصل النظر لا أدرى ماذا أو ما أفعل. ضربنى هو بالشلوت ضربة ألقت بى على عتبة باب الفصل فانطرحت على وجهى، أنا الذى كنت منذ قليل أتخيل نفسى مدرسًا محترمًا مهيبًا. فطار صوابى، لممت نفسى بسرعة. مثل كلب مسعور متوحش، رميت بنفسى فى كرش وائل أفندى مدرس الرياضة بكل قوتى.

صرت أنهش فى لحم وجهه بأسنانى، وأدق أنفه وأسنانه بمقدمة رأسى، وأضرب بركبتى وقدمى فى محاشمه وقصبة ساقه، حتى تطوح منطرحًا على الأرض، فبركت فوقه ممسكًا بتلابيبه وقد ماتت أصابعى الغاطسة فى لحم رقبته. هاجت اللجنة كلها. شعرت بأن مدينة برمتها تنهال ضربًا على جسدى تحاول تخليصه منى دون جدوى، ارتفع الصياح واشتغل الغش وظهر البرشام بالأكوام، وجاء العميد يهرول فزعًا، وجاء أكثر من شرطى، وصارت الهراوة تنهال على ظهرى ومؤخرتى ورأسى. كل ضربة أتلقاها أنفثها سمًا فى وجه وائل أفندى، بأن أرفع رأسه ثم أهبده فى الأرض كأننى أريد تنفيضه من المخ. حتى إذا ما خُيل لى أنه قد لفظ روحه وتهاوت كل أعضائه واصفر لونه، واختفى بريق عينيه تمامًا، تراخيت واستجبت للأيدى التى ترفعنى عنه. فلما وقفت صرت أدبدب بقدمى فى بطنه، فى محاشمه، فى وجهه، حتى تركته كومة من الخرق الممزقة مبقعة بالدم، دمى ودمه.

نقلوه إلى المستشفى فى حالة خطرة، وسلمونى إلى شرطة البندر فى حالة يرثى لها، تشیعنی لعنات العميد ووصفه لأهلى ولأمثالى بأنهم رعاع سفلة حقراء، ولطه حسين بأنه خرب التعليم ودنسه بأولاد السفلة من أمثالى. وكنت أعرف أنه سيقول هذا، لكننى لم أعره انتباهًا؛ إذ كنت واثقًا أننى قد شفيت غليلى وانتقمت لكرامتى المهدرة، وأن الكثيرين من زملائى كانوا ينظرون لى بكثير من الأسف المشوب بشىء من الإعجاب، ومع ذلك كنت أشعر بأننى لم أكمل بولتى التى لا بد أن أبولها فى حنك وائل أفندى، ما دمت سأدخل السجن وأُحرم من مستقبلى على يديه، وأننى سوف أقتله حتمًا حالمًا أن أتملك حريتى فى أى لحظة.

إلا أن المحكمة رأفت بحالى فحكمت علىَّ بستة أشهر سجنًا مع إيقاف التنفيذ، مع فصلى نهائيًا من المعهد. ويوم ذهبت إلى المعهد بعد ذلك بعام، بحجة سحب ورقى، وبنية أن أغرز سكينًا فى كبد وائل أفندى، فوجئت به قد بات مسـخًا شائهًا أعور العين، حيث تبين لى أننى فى جنونى فقأت إحدى عينيه، وكانت أسنانى لا تزال تحفر أماكنها فى جميع أنحاء وجهه، وكان يمشى نحو الفصل فـى انكسار، متنازلًا عن عجرفته وغطرسته وقد انخفض صوته الجهورى الشاخط دائمًا بلسانه الذواتى الألدغ. أما أناقته التى كانت تميزه فقد بهتت تمامًا. لحظتها تراخت يدى على قبضة السكين فى جيبى، وداخلنى شىء من الإشفاق علينا كلينا.

من رواية: وكالة عطية

خيرى شلبى