رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التراث.. ومتطلبات الواقع

تحت عنوان «منهجية الإفتاء فى روسيا.. نظرات فى التراث فى ضوء متطلبات الواقع»، أقامت «الإدارة الدينية لمسلمى روسيا الاتحادية»، مؤتمرها الدولى السنوى، بالعاصمة الروسية موسكو، بحضور الدكتور شوقى علام، مفتى الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم، الذى ألقى، أيضًا، خطبة الجمعة، أمس، فى المسجد الجامع بموسكو. كما شهد، على هامش مشاركته فى المؤتمر، تخريج دفعة من أئمة روسيا الاتحادية، بعد أن اجتازوا برنامجًا تدريبيًا عقدته دار الإفتاء المصرية.

يهدف المؤتمر إلى تبادل الخبرات ومناقشة القضايا المشتركة والتحديات الملحَّة، التى تواجه العالم الإسلامى فى مجال الإفتاء، وتمكين أواصر التعاون العلمى والعمل المشترك. وكان أهم ما جاء فى المؤتمر، وخطبة الجمعة، وحفل تخريج الأئمة، فى رأينا، هو تشديد الدكتور علام على أن الفتاوى الصحيحة تدعم قِيمَ التسامح والتعايش، وتُكافح الأفكار الإرهابية والمتطرفة، التى حاولت الجماعاتُ المتطرفة نشرها فى العقود الأخيرة عبر فتاوى مغلوطة. وتأكيده على ضرورة رسم صورة صحيحة لعلاقة المسلم بغير المسلم؛ الأصل فيها أن تكون علاقة محبة ومودة وتعايش وتعاون من أجل البناء والتنمية، ومقاومة آثار التخلف والجهل والفقر والمرض، والتخلص من كل ما يمتُّ إلى الصدام والعنف وقتل الأبرياء بِصِلة.

المسلمون، كما أكد مفتى الجمهورية، خلال كلمته فى المؤتمر، شيَّدوا على مدى قرون عديدة تراثًا حضاريًا يتمتع بالعديد من القيم والمبادئ ذات المرجعية الدينية الوسطية، التى كانت تحكم سلوك الفرد المسلم شرقًا وغربًا، دون أن تنزع منه خصوصيته الثقافية وعاداته وتقاليده المجتمعية؛ ما جعل منه تراثًا متعدد الأنساق. غير أن الدكتور علام أشار إلى أن وجود «علماء» قادرين على فهم الواقع، فهمًا دقيقًا، يستوعب الإشكاليات والتحديات التى تواجههم فى هذا العصر- يتطلَّب جمع كلمة المؤسسات المنوطة بهذا الأمر من أجل صياغة مناهج إفتائية تراعى متطلبات الواقع المعاصر، وطبيعته التى تتّسم بسرعة التأثير على الأفكار والسلوكيات البشرية، والتى يتَّسع مدى تأثيرها فى عصر الذكاء الاصطناعى والتحولات الرقمية.

من هذا المنطلق، طالب مفتى الجمهورية بضرورة فهم الأصول والجذور التراثية، التى تنبثق منها الثقافات المتعددة. وأوضح أن الفتوى، التى هى أبرز مظاهر التجديد التى يتمتع بها الفقه الإسلامى، لا بد أن تكون داعمة للبناء والعمران، وتسعى إلى خدمة البشرية، والحفاظ على استقرار المجتمعات، وتعزيز الاندماج داخل المجتمع الإنسانى برؤية فقهية مستنيرة، لا تتعارض مع القيم الأخلاقية المستقرة، مشددًا على أن الفتوى إذا لم تراعِ ذلك الإطار الكلىِّ، تحولت إلى نافذة من نوافذ التشدد الذى يعصف بأمن وسلامة الأمم والشعوب.

فى السياق نفسه، حذّر مفتى الجمهورية أئمة روسيا الاتحادية، الذين اجتازوا الدورة التدريبية، من الانزلاق واتباع المناهج المتطرفة، وأشار إلى أن البرنامج قدم محتوىً علميًا مفيدًا، ومنهجية دقيقة، راعت أن يكون القائم بالإفتاء قادرًا على أن يصدر حكمًا شرعيًا متفقًا مع الواقع المعيش. كما أكد، فى خطبة الجمعة، أن مواجهة الأيديولوجيات المنحرفة تحتاج إلى حرب فكرية يتعاون فيها علماء الدين مع صنَّاع القرار ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، من أجل تفنيد تلك الأيديولوجيات وفضح أفكارها الخاطئة. ولعلك تتذكر أننا كنا قد أشرنا، أمس، إلى مشروع «تشريح عقل المتطرف»، الذى أطلقته دار الإفتاء المصرية، سنة ٢٠١٧، لدحض وتفنيد خطاب التطرف وإثبات ضلال منهج التنظيمات الإرهابية من واقع الأسانيد الشرعية، فى إطار البعد الفكرى للاستراتيجية أو المقاربة المصرية الشاملة لمكافحة الإرهاب والتطرف.

.. وتبقى الإشارة إلى أن مفتى الجمهورية أشاد بالجهود، التى تبذلها الإدارة الدينية لمسلمى روسيا الاتحادية، لتعزيز فهم مناهج الفتوى، التى تناسب العصر، وتأهيل العلماء القادرين على استعمال تلك المناهج. كما أشاد، أيضًا، بتعاونها المثمر مع دار الإفتاء المصرية، لتعميق التواصل بين المؤسسات الإفتائية المختلفة، من أجل التوصل إلى حلول مشتركة، ومواجهة التحديات التى تتعلَّق بمجال الفتوى، والاستفادة من التجارب والخبرات المتنوعة فى التعامل مع الوقائع المتجددة فى مختلف المجتمعات المسلمة.