رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفهم.. الفهم.. الفهم


أنا من المعجبين بالعقل الغربى فى التفكير والطموح والإصرار على استكشاف المجهول فى الكون كله فى شتى الميادين، وكأنهم يعلمون قبلنا علماً يقينياً أن الكون مسخر للإنسان، وأنا من المعجبين أيضاً بإثراء الحضارة الغربية المعاصرة-

سياسة وأمناً وتعليماً- حتى لو كانت مادية بحتة حسب أيديولوجيتهم، إذ يستفيد من هذه الحضارة العالم كله، الصديق والعدو، المحب والكاره لأمريكا والغرب، مصدر الاكتشاف والاختراع. ويؤسفنى كثيراً ويؤلمنى باستمرار، أن الأمة العربية والإسلامية لا تساهم بشىء يذكر فى هذه الحضارة مادياً أو معنوياً، رغم الإمكانات الكبيرة، والثروات البشرية والمادية الضخمة التى توجد فى العالم العربى والإسلامى.

ولكن الخلل الكبير فى العقل الغربى وخصوصاً فى ميدان حقوق الإنسان، وباستثناء المواطن الغربى المعنى بحياته الدنيا والمتعة التى لا حدود لها- أقول الخلل الكبير فى العقل الغربى، يكمن فى غياب الانصاف والعدل والموضوعية سواء فى الاستراتيجيات والسياسات والتنفيذ، إذا كان العدل والإنصاف والموضوعية ضد المصالح الغربية. خذ مثالاً على ذلك إنشاء إسرائيل ودعم إجرامها المتواصل، رغم كل الجرائم التى ارتكبها وترتكبها إسرائيل فى حق الشعب الفلسطينى خصوصاً والأمة العربية عموماً، وهو ما سيعانى منه العالم كله مستقبلاً كما عانى أيام هتلر رغم أنه نتاج ديمقراطى. هل يعجز العقل الغربى الرسمى والإعلامى خصوصا عن رصد هذه الحقيقة أو تبينها، وهى لا تحتاج إلى مراكز أبحاث، ولا الغوص فى أعماق البحار، ولا الصعود إلى الكواكب الأخرى؟

كانت هذه هى المقدمة التى اقتنعت بها كل الاقتناع، وأصبحت أساساً من الأسس التى استخدمها فى تحليل المواقف السياسية للأمريكان والصهاينة، وانعكاسات ذلك على الصراع الذى يكاد أن يكون مستمراً ومطاطاً ومدمراً، وانعكاسات ذلك أيضاً على الحروب والأمن والسلم العام والنواحى الأمنية حتى فى كل قطر على حدة، سيستمر ذلك كله أساساً فى التحليل، حتى تتغير هذه السياسات والاستراتيجيات الظالمة، فتتبدل المواقف كذلك.

وبعيداً عن فتنة - نقد المسيحية- الذى تقوم به جمعية «سخاء» الخيرية عن طريق الدعوة للاشتراك فى دورات تدريبية، ولا أدرى ما الارتباط أو العلاقة بين جمعية سخاء الخيرية ونقد المسيحية.

وبعيداً عن إنقطاع الكهرباء فى مصر حتى على البورصة، وتعطل مترو الأنفاق، والاشتباكات بين المؤيدين لمرسى وهم كثرة وغالبية، وبين المعارضين له أمام القصر الجمهورى، وما كان ذلك ليحدث أبداً أيام المخلوع. وبعيداً عن مطاردة الإرهابيين فى سيناء، مما قد يزيد الأمور والأوضاع تعقيداً إذا كانت هذه هى الوسيلة الوحيدة، الوسيلة الأمنية.

ولقد سبق أن قدم المرحوم الدكتور عصمت سيف الدولة دراسة تحليلية قيمة للغاية من الناحية القانونية والسياسية لنصوص اتفاقية الصلح بين النظام المصرى والإسرائيلى، قدمها إلى مجلس الشعب يبين فيها أن نصوص الاتفاقية قد جعلت من سيناء مستعمرة أمريكية إسرائيلية، وأنها قيدت الشعب العربى المصرى بنصوص وقيود تعيق سعيه إلى تحريرها تحريراً كاملاً. وهذه قضية خطيرة ينبغى وضعها فى الاعتبار عند التخطيط لتعمير سيناء ومواجهة المتشددين أو الإرهابيين.

وفى ضوء الإنذارات الأربعة التى وجهتها إسرائيل لمصر، وقد أوردها الأستاذ محمد سيف الدولة فى مقاله يوم الأحد 5 يونيو 2011. وتتلخص هذه الإنذارات فى أن مصر خرقت معاهدة السلام بفتح معبر رفح، وهددت إسرائيل بإحالة مسألة المعبر إلى التحكيم الدولى، كما هدد نتنياهو مصر بأنها عاجزة عن فرض سيادتها الكاملة على سيناء، والإنذار الرابع يهدد باللجوء للتحكيم الدولى بشأن تفجير خطوط الأنابيب، ومن ثم تعطيل تصدير الغاز إلى إسرائيل.

كانت جريمة رفح البشعة، منطلقاً للغضب ثم للحركة والتغيير، تغيير فى أهم القيادات الأمنية فى مصر وتغيير فى الموقف من سيناء، وهو تغيير فى موضعه تماماً، ومن حق الرئيس أن يحيط نفسه بقيادات أمنية تستطيع حمايته فى المكتب والمنزل والشارع وحضور الجنازات خاصة جنازة الشهداء.

قد يكون المجرمون المشاركون فى جريمة رفح من أى جنسية، ولكنى أكاد أوقن باليد الإسرائيلية فيها، أما إذا كان المجرمون فى هذه الكارثة من المتشددين دينياً، مثل جماعة التكفير والهجرة أو الإرهابيين من شباب القاعدة وغيرها، فالأمر جد خطير، ولا يحتاج إلى علاج أمنى فقط بل وفقهى وفكرى وثقافى عن طريق الحوار مع أهل سيناء، ومع المتشددين أنفسهم، بالإضافة إلى الطرق الأخرى الفاعلة، حتى تصلح العقول وتؤمن بالوسطية وبالعمل السياسى وبالديمقراطية، قبل أن تتحول سيناء خصوصاً إلى منطقة صراع دموى مثل أفغانستان أو باكستان أو العراق أو الصومال أو الجزائر أو غيرها، أو يصبح لدينا جماعات مثل طالبان فى التشدد الفقهى. أقول هذا، ولكننى مع طالبان مائة فى المائة، وهى تحارب الاحتلال الأمريكى والناتو لأفغانستان، ولكن هؤلاء فى سيناء سيحاربون إخوانهم وأهلهم للأسف الشديد.

كثير من الذين تحدثوا عن ضرورة مواجهة الإرهابيين والمتطرفين فى سيناء، لهم كل الحق فى ذلك، ولكنهم ركزوا على المواجهة العسكرية فقط، وهذا فى ظنى مطلوب، ولكن فى أضيق الحدود، وعندما تفشل أو لا تكفى الحلول الأخرى. فلا ينبغى أن نضيف على أهل سيناء ظلماً على ظلم، بل ينبغى السعى فى حل مشكلاتهم مع مبادرات حفظ الأمن، وإلا فإن المواجهة الأمنية والعسكرية وحدها لن تحل المشكلة مهما طال أمدها، ومهما كثرت التضحيات. وأفغانستان مثال واضح أمام أعيننا على خطورة الحل الأمنى والعسكرى، حتى لو قامت به أمريكا والناتو وبإمكاناتهم الضخمة، بعيداً عن الحلول الثقافية والفكرية والفقهية.

أمريكا والناتو ليس لديهم إلا القوة أو الضغط كالحصار أو استخدام المنظمات الدولية. وقد لمسنا فوائد تلك الحلول الفقهية الإيجابية من موقف مراجعات الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد فى مصر من قبل. المهم ألا ننسى الاستراتيجيات والسياسات الأمريكية والصهيونية، إذ إنهم هم المستفيد الوحيد من هذه الكارثة، وغيرها من الكوارث الأخرى. ومن مجالات الاستفادة والسيطرة وتدريب أجهزة الأمن وتوفير الأسلحة لمن يريدها وإنشاء القواعد العسكرية بحجة حماية الضعفاء، وهم أى الأمريكان والصهاينة من وراء معظم المصائب فى العصر الحديث، مهما كان المنفذون فى العالم العربى.

وأهل فلسطين مع أهل مصر، هم المتضررون من هذه الجريمة البشعة، سواء قامت مصر بتدمير الأنفاق وإغلاق المعبر ولو مؤقتاً أو لم تقم. ولو أن نظام مبارك هو الذى قام بتدمير الأنفاق لخرج الشعب المصرى والإخوان فى مظاهرات ضد هذا القرار وفى مقدمتهم د.مرسى. كل شىء ممكن عمله أمنياً، ولكن لا يجوز أن تشترك مصر بعد الثورة، ولو للحظة واحدة فى حصار غزة ولو بإغلاق المعبر ثانية واحدة.

هذه المقدمة عن الوضع الأمنى والعسكرى فى مصر، تقودنى إلى الوضع المعقد جداً فى سوريا وأزعم أن يد أمريكا وإسرائيل، ليست ببعيدة عما يحدث فى سوريا من مآس، أو أنهم يخططون ويفكرون ملياً لكيفية الاستفادة من الأوضاع سواء تغيرت الأوضاع جذرياً أو جزئياً.

ومن جوانب الفتنة البشعة فى العالم العربى والإسلامى الموقف الإيرانى من قضية سوريا. قد يكون هذا الموقف استراتيجياً صحيحاً فى أن أمريكا وإسرائيل سيملئون الفراغ المتوقع فى سوريا بعد الانتهاء من القضية، سواء بطرد بشار أو قتله مهما طالت المدة، ولن يفيد الفيتو الروسى ولا الصينى أمام المصالح الكثيرة وأمام الضغط الصهيونى. ولكن هذا الموقف الإيرانى من نظام الحكم القائم فى سوريا غير مقبول سياسياً ولا أخلاقياً لما يجلبه من دمار، ولما يقوم به بشار ونظامه من قتل وتدمير وظلم، مما يؤثر فى المصالح الاستراتيجية الإيرانية فى العالم العربى، ويزيد الشقة بين السنة والشيعة، حين يظن بعضهم أن الشيعة أخطر من الأمريكان واليهود والصهاينة، وتزداد نتيجة ذلك الأمة تفتتاً وضعفاً، وهنا تكون الفتنة التى تعصف بالجميع. لو أن الإيرانيين وازنوا بين إيجابيات الوقوف مع الثورة الشعبية فى سوريا أو دعم نظام بشار المتهالك، لكان ذلك أدعى وأولى، وأقرب إلى ضمان استمرار موقف سوريا حكومة وشعباً موقفاً سياسياً متميزاً من الممانعة ودعم المقاومة فى لبنان وفلسطين، ولكان هذا الموقف يحمل خيراً كثيراً للجميع، ولكنها السياسة.

والله الموفق