رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تقاطعات العشق والدجل

محمد فايز حجازى
محمد فايز حجازى

رُبَّما كانت جولتنا تلك هى أغرب جولة لعاشقين- فيما أعلم- فلم تكُن نزهة على ضفاف النيل، نختَتِمُها بجلسة شاعريَّة، وحيدين فى مركب شراعىّ، ولم تكُن فسحة رومانسيَّة فى حديقة غنّاء، بين الأزهار البديعة والأشجار، أو لقاء عشاء على ضوء الشموع والموسيقى الناعمة، كما يفعل العُشَّاق دائمًا، إنَّما كانت جولة بين جنبات حَفَّارة فى قلب الصحراء، ترافقنا فيها معدات حديديَّة صَمَّاء، وأصوات المَضخَّات على البُعد هادرة، ورنين المواسير وصخب العُمَّال، ولكِنَّنَا- أقولها وكُلِّى يقينٌ- قد كُنَّا على أعلى درجة من درجات الصَفَّاء والبهجة والنشوة الحالمة، إذ ما حاجتنا للموجودات من حولنا، وقد انتشى القلب وهامت الروح، وأضحت الجَنَّة فى القلوب، ولم نَعُد نسمع إلّا نبض العشق فى القلب والعروق؟. خلال الجولة استكملتْ حديثها عن نفسها الذى بدأته فى غرفة الاجتماعات، ثم حدَّثْتها أنا أيضًا عن أحوالى، عن حكايات أبى لى، عن أُمِّى وأختى، عن طفولتى وصِباى، عن تخرُّجِى فى الجامعة وشركتى السابقة، وكيف استبعدت منها، عن «القاهرة» الآسرة، عن المساجد، وعن مَمَرِّ السحر بين مسجدى «الرفاعى» والسلطان «حسن»، الذى كُنْتُ ألتقيها فيه قبل أن أراها. مضى الوقت سريعًا كالحلم، وأوشك الفجر أن يَطُلَّ، أخبرتها عن وجهتى إلى غُرفة الاجتماعات لالتقاط بعض الأوراق، لم أدرِ لماذا فعلت هذا! ولم أدرِ كيف فهمت هدفى!

تبعتنى بلا اتفاق، كُنَّا نسير مسلوبى الإرادة كالمسحورَين، واربت باب الغرفة، لم أُضِئ أنوارها، كان نور وجهها الأبيض يكفينى، وكأنِّى به يشعُّ نورًا سماويًا فى ظلام الغرفة، حتى لقد طغى تمامًا على بَصيص الضوء الخافت والباهت، المُنساب عبر الباب، عانقتها فى هيام وجعلت أُقَبِّلها فى كلِّ جزء من وجهها، حتى التقت شَفَتَانا، غبت أشرب من رُضاب لسانها عسلًا، مُزجت حلاوته بفَمِى حتى ثَمِلت، حاوطتنى بذراعيها، داعبتْ بيديها ظهرى المُنهك، وكذلك فعلتُ، لم نتماد فى قبلاتنا؛ فقد انتبهنا إلى وَقْعِ أقدامٍ تَمُرُّ بالخارجِ، لو نَظر صاحبُها بجواره لرآنا، كنتُ كَلِصٍّ آثِمٍ يحتال للسرقة. حينها أفقنا وقد اكتشفنا أىُّ ذنب عظيم قد اقترفناه، مُنتهكَين حُرمة الشهر الفضيل، أعترفُ بذلك الآن كما لو كُنتُ أتحدَّثُ عن اثنين آخرين غيرنا، أنا لا أُبرِّرُ لكم موقفنا، ولكننا لم نكُن فى كامل وعينا وقتئذٍ، وليغفر لنا الرحمن زلَّتنا، حينها ساءت حالتنا كثيرًا، انسابت دموعها على وجنتيها، وعندما هَمَّت بالانصراف، استوقَفتها، مسحت دمعاتها، وقَبَّلتُ جبينها قائلًا:

- يا ملاكى الأبيض الحزين، يا نسيم الليل فى الشهر المبارك، يا ليلة القدر المُباركة، يا حلم ليلة العيد، ورفقة الطفولة، أنت أمسى ويومى وغدى، لا تحزنى فغدًا يجمعنا بيتُنا، صدِّقينى غدًا يجمعنا بيتنا، عاهدِينى ألّا تكونى لسواى.

أومأتْ برأسها إيجابًا فى استكانة ثُمَّ انصرفتْ صامتًة، كادَ إحساسى بالذنب يفتك بى. فى المكتب، وبيدٍ مُرتعشة، كتبت تقريرى المُعتاد لمسيو «خازم»، غير أنَّنى لم أتلقَّ منه ردًا حينها، ولا حتى فى أىِّ وقت لاحِق! 

فى الاجتماع الصباحى كنتُ أرى غرفة الاجتماعات بعَينٍ جديدة، وكأنَّ عطر حبيبتى ما زال هناك، أستنشقه وأنتشى به، تعمدت الجلوس على الكرسى الذى اعتادت أنَّ تجلس عليه، كنت قد فقدت كل انتباه، إلّا من غُصَّة وندم استشعرتهما فى قلبى، انتهى الاجتماع ومضيتُ إلى غُرفتى، كانت الدقائق تمضى ببطءٍ كالموت، غبتُ أفكِّر فيما هو آتٍ، كيف أزورها فى بيتها! وهل يُرحِبُّ بى أبواها! ولو فعلا، هل يرتضيان بسفر ابنتهما معى إلى «القاهرة»، وهى وحيدتهما! بل هل تترك هى عملها المنتظر فى الجامعة! فكَّرت فى أنَّ الجامعات الدوليَّة فى «مصر» قد انتشرت بكثافة، أظنُّ أنَّ فرصتها فى الالتحاق بإحداها قد تكون قائمة، وهل أجدُ أنا عملًا جديدًا فى «مصر»! وهكذا كنتُ أتقلَّب فى فراشى مُؤرَّقًا لوقت طويل. 

قبل المغرب بساعة، استقبلنى «ريكى» بابتسامة شابَهَا التهكُّمُ، وبنبرة بها مَسحة من سخرية استشعرتها بوضوح قال وكأنَّه يُمازحنى:

- يبدو أنَّ أمرك مع هذه الفتاة أضحى مفضوحًا يا صديقى، أخشى أنَّ تُفقدك كثيرًا من تركيزك.

قلتُ له فى ضِيقٍ واضح وتعجُّب مُصطنع:

- ماذا تقصد؟

- لا تظنَّ أنَّنى فى غرفتى ليلًا لا أرى وأسمع ما يدور فى كل أرجاء الحَفَّارة، ثم إنَّ الجميع فى الحَفَّارة يتحدَّثون عن قصة الحبِّ المُحتدمة بينك وبين الفتاة الجزائريَّة.

- عن أىِّ فتاة منهما تتحدث؟

- تلك التى تأتيك قبل زملائِها فى الاجتماع التدريبى كلَّ يوم، والتى تجوَّلتَ معك فى الحَفَّارة ليلة أمس، ثُمَّ تبعتك قبل الفجر إلى غرفة الاجتماعات، وأمضيت معها قرابة الدقائق الخمس قبل أن تخرجا من الغرفة، وللحقِّ فهى فاتنة وتستحقُّ كلَّ هذا الاهتمام منك.

هَالَنِى ما أسمع ووقعت علىّ كلماته كقنابل مُدويَّة، فللرجل عيونٌ وأذانٌ ترى وتسمع ثُمَّ تنقل، غير أنَّنى تماسكت ولم أُبدِ انزعاجى، وأجبتُ وكأنَّ الأمر لا يشغلنى:

- اسمعنى يا صديقى، تلك الفتاة دون زملائها، سوف تُعَيَّنُ كمُعِيدة فى قسم الجيولوجيا فى جامعتها، وتهتمُّ كثيرًا بشئون العمل، فكان واجبًا علىّ أن أساعدها قدرَ استطاعتى.

ثُمَّ ابتسمتُ ساخرًا وأكملت:

- هل تعتقد أنَّنى جئت تاركًا أهلى وبلادى لخوض مغامرات عاطفيَّة فى الحَفَّارة؟

- ولِمَ ذهبتما ليلًا إلى غرفة الاجتماعات، بعد أن انتهيتما من جولتكما؟!

- كُنَّا نلتقط بعض الأوراق التى نسيناها هناك.

- فى الظلام يا صديقى! من يبحث عن أوراق ألّا يُضىء الأنوار!

تضاعفت دهشتى أضعافًا كثيرة، فقد كان الرجل يتحدث وكأنَّه رافقنا فى ليلتنا، تغلبت بصعوبة شديدة على ارتباك كادَ يتسلَّلُ إلى صوتى وقَسَمَات وجهى وقلت: 

- أعرف مكان الورق، دخلت مُتعجلًا ثُمَّ مَضيت.

- سأتجاوز عن هذه النقطة وعن الخمس دقائق التى أمضيتماها باحثين عن الأوراق، ولكنِّى حقيقةً أُصَدِّقُك فى أنَّك كنت مُسرعًا.

ثُمَّ صمت برهة وقال:

- نعم كنتَ مُسرعًا، ولكن وقت خروجك من غرفة الاجتماعات، كنت مسرعًا وقت خروجك فقط، أتدرى لماذا؟!

لم أجبه، فواصَلَ قائلًا:

- لأنَّك كنت قد تأخرت عن إرسال التقرير لمسيو «خازم»، أصدقاؤنا مهندسو الاتصالات يُبلِّغوننى بكلِّ شاردة وواردة، على أى حال فلا لومَ عليك ولا ذنبَ لك على الإطلاق، أنت إنسان مُخلص وهذا ما نُفضِّله جدًا.

كانت دهشتى قد وصلتْ ذروتها، غير أنَّ ملامحى قد ظَلَّت جامدة، وتماسُكى قد ازداد صلابة، فقلت فى لا مبالاة:

- هل هو تحقيق يا «ريكى»، إنَّ مِن مَهام عملى أن....

قاطَعَنى وهو يقول فى هدوء وحكمة اصطنعهما:

- لا تُراوغنى يا صديقى، فلقد قرأت شخصيتك منذ البداية، أنت شخص حالم مُرهف المشاعر، على الرغم من حدِّتك التى تستدعيها فى الوقت المناسب، وهذا لا يُشينك، بل على العكس أرى أنَّك شخص يقترب من المثاليَّة المهنيَّة، ولم تقصر قطُّ فى مهام عملك، ولهذا فسأكون خير مُعينٍ لك، ولسوف أرشِّحك بقوة للاستمرار مَعَنا فى فريق عملنا، غير أنَّ لى نصيحة أخيرة.

ثُمَّ سكت بُرهةً وقال:

- أنصحك بأن تتوقَّف عن إرسال التقارير لمسيو «خازم»، فَلَم يَعُد لديه قُدرة على رؤية بريده الإلكترونى الخاص بالشركة، بعد أن أحِيل للتقاعُد يوم أمس!

قلت وقد صعقتنى المفاجأة وبلغ منى الانزعاج مَبلغًا لا مثيل له: 

- أحيل للتقاعد! كيف؟! ولماذا؟! إنَّه رجل...

قاطَعنى قائًلا:

- لا شأنَ لنا يا «حسن»، لا شأن لنا، يبدو أنَّه أزعج بعضهم من عِلية المسئولين والمديرين، وهذا هو المآل الطبيعى لمَن لا يُحسن تقييم الأمور يا صديقى.

ثُمَّ استطرد فى لهجة مُستكينة واضحة التصنُّع:

- ولكن صدقنى، هذا استنتاج شخصى منى، فلا أعرف تفاصيل ما حدث.

قلت مُراوغًا فى فطنة: 

- صدقت يا رجل، صدقت، الخبرة والاحترافيَّة فى العمل ليستا كل شىء، ليستا كل شىء على الإطلاق، أنا أعلم هذا يقينًا نتيجة تجربة شخصيَّة. 

رُبَّما أحسنت بِرَدِّى هذا الذى لم يتوقعه «ريكى»، وقد قلته مُبديًا اقتناعًا زائفًا وصدقًا مُصطنعًا، وكان لزامًا علىّ أن أفعل ذلك، وقد بدأت الصورة تتجلَّى أمام ناظرىّ كشريط سينمائى واضح وسريع.

مقطع من رواية «الأقدام السوداء»

Pides Noirs