رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سطر يكتب حكاية

جريدة الدستور

وجد السطر نفسه وحيدًا فى صفحة خالية من الكتابة، فاعتقد أنه ممدد على شاطئ بحر، لمسه بطرفه، فخُيل إليه أنه ابتل، ليسحبه لأعلى ناثرًا ماء حول البحر لصحراء.

فرح لحدسه الذى أنقذه من الغرق.

تلمسه قشعريرة تتسلل من كتب تعود لأزمنة قديمة، لا يتذكر إن كان بإحدى صفحاتها يومًا، أو شم رائحتها فقط من بعيد. اعتقد أنه أكبر عمرًا مما قدره الآخرون. لو كان وجوده سابقًا على تلك الصفحات، فسيكون رباط حذاء أو قطعة حطب رفيعة جدًا لكوخ صغير، ولو وجد لحظة كتابتها، فيحتمل أنه هارب من كتب أخرى بمعانٍ مختلفة. 

يخيم ظلام على الصفحة عند إغلاق كشكول سلك ووضعه فى درج مكتب بطريقة مائلة فوق «جبل أجندات» صغير، ليربط السطر طرفه فى إحدى حلقات الكشكول المعدنية، لتفادى الارتطام بحواف الأجندات المسننة، أو السقوط فى قاع الدرج المظلم.

تصله أصوات من صفحات أخرى، لوشيش أمواج، لأطفال يغسلون ملابسهم أمام كوخ خشبى. يشعر أحيانًا بحرارة شمس، بضوء قمر، وبكلمات متناثرة من أفواهٍ مختلفة.

أراد لفت نظرهم لوجوده.

فكر أنهم يبحثون مثله عن قشة يتعلقون بها، قلد حركة موجة، لكنه أخفق فى محاكاة وشيشها الناعم. استدار شمسًا وقمرًا، لكن دون حرارة وضوء، وتشكل أخيرًا حسب الكلمات المتناثرة؛ لكنهم اختفوا جميعًا إلى مكان مجهول. 

انكمش حزينًا كثعبان لحظة قيلولة، لكن مد جسده سريعًا حتى لا تخاف الكلمات الاقتراب منه.

مد السطر طرفه خارج الدرج، فانغلق عليه ليقطع وينزف حبرًا أسود فوق أسطر صفحات أخرى أيقظها من النوم، لم تتوصل لمكان النزف، لكنها تأكدت من وجود جريح بمكان ما.

هربت بعض الأسطر من كتاب امتلأ بأرقام ورسوم بيانية، عندما فتح مصادفة فوق مكتب صغير. أحيانًا تترك بعض كلمات، أرقامًا، وألوانًا لتتجول بين الصفحات، أو تعيرها لأسطر أخرى وتستعيدها آخر الليل.

كانوا قبل قطع ورقة وإلقائها فى سلة قمامة يستبدلون فيها الأسطر الحية بأخرى ميتة، تلك المستهلكة من أقلام حادة كالسكين، أو لقطعها مسافات كبيرة بين كتاب وآخر. 

ضلت كلمتان الطريق أثناء تجوالهما. توقفتا آخر صفحة شاسعة كصحراء. شعرتا بالخوف من ريح هبت عليهما، لتختلط أحرفهما وتتفرق فيجمعانها بصعوبة. سقطت قطرتا حبر فوق رأسيهما من أعلى الصفحة، فسحبتا السطر الجريح شبه فاقد الوعى للوصول لأقرب كلمة تدلهما على الطريق. سمعوا عواء ذئب، ورأوا خيالات كائنات مخيفة يجهلون مكانها. 

بكت الكلمتان فشحب لونهما وافتقدتا المعنى مؤقتًا؛ فلأول مرة تواجهان فراغًا مخيفًا بلا جملة أو سطر. استراحوا لالتقاط الأنفاس، فحدثهم السطر عن آخر حلمين رآهما بالأمس.

ظهر لهم قمر متجول وبجواره بيت خشبى يبتسم.

ساروا على ضوئه حتى صفحة تعرض حفلة صاخبة.

فرحوا لرؤية السطر الذى نزف فوقهم حبرًا أسود، وأفسحوا له مكانًا بينهم.

عوضوا طرفه المقطوع بآخر رسم عليه نهر، بينما تنازل له أحدهم عن القمر والبيت الخشبى المبتسم.