رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فرار

حنان عزيز
حنان عزيز

لم أكن قريبة بشكل كبير، لكن صوت الرجل الجالس بالجوار كان صداحًا، عجوز متصابٍ، رحل مركبه من شواطئ الستين منذ زمن، أصلع ذو شارب كث مصبوغ بالأسود الفاقع، كأنه يقول للناظر أنا ما زلت فحلًا.. تجلس أمامه سيدة لم أتبين ملامحها، كانت تولينى ظهرها، بدينة نسبيًا، شعرها قصير، ترتدى فستانًا يشى بعز غابر، قديم الطراز، تبدو أكثر رقيًا من الشيخ ذى الصوت الأجش، أكثر هدوءًا واتزانًا، اخترقت كلماته مسامعى، اقتحمت علىّ وحدتى بشكل صريح، فصرت جزءًا من المشهد رغمًا عنى.

أنا بوضب الشقة، ما إنتى عارفة الشقه ٥ أوض كبار، هتاخد وقت ومصاريف كتير. 

يرشف من كوب بيرة أمامه رشفه كبيرة: إنت مبتشربيش ليه، لا لازم تتعلمى تشربى علشان تتبسطى، أحلى حاجة فى الدنيا البيرة، خصوصًا فى الحر. 

يناولها كوبها، لكنها ترفض بصوت منخفض، تتمتم بكلمات لا أتبينها، فيرد باستياء:

لا فرح إيه، مش عايز أفراح أنا ملعون أبوالناس، أنا أخدك ونطلع يومين حلوين الغردقة ونرجع على البيت. 

يتلفت حوله ثم يقول: البواب مالوش عندنا حاجة، أنا بعرف إزاى أسكته.. بس إنتى لازم تشربى، مينفعش كده، أمال بتشربى سجاير إزاى؟! مش هتعرفى تبطلى طول ما إنتى بتشربى قهوة وشاى بس، عايزة تبطلى يبقى هى البيرة. 

ورفع كأسه فى تلذذ واضح وجرعه على دفعة واحدة.

أشار للنادل القريب، الذى بالمناسبة كان يتابع معى المشهد فى استمتاع واضح:

هاتلها قهوة يا سيدى وأمرنا لله، هاتلى إزازة كمان.

ينظر إليها بنهم، قد بدأ مفعول البيرة يبدو واضحًا فى نبرات صوته:

إحنا قدامنا بالكتير شهر ونخلص، بس عايزك فى الشهر ده تقابلينى كتير، علشان تتعودى عليا وعلى طبعى، هنخرج ونتفسح.. بالمناسبة إيه رأيك فى المكان ده؟ المكان ده بيبقى أحلى فى الصيف، هابقى أجيبك مرة، الأكل بتاعهم حلو. 

واقترب منها برأسه هامسًا: 

جعانة؟

رفضت بشدة.. قال لها:

طب حتى كلى معايا خيار.. وأشار إلى صحن أمامه. 

أحضر النادل القهوة، بدأت تجرعها على عجل، دون أن تشعل سيجارة، من مكانى كنت أرى يدها تحمل الفنجان ترتعش، أحسست أنها تعيسة بشكل ما، إنها مرغمة، تحركت من مكانى ومضيت لأرى وجهها، كما توقعت؛ سيدة خمسينية، وجهها محتقن، عيناها تحملان غشاوة دموع، ما زال العجوز يثرثر، قد استبد به الكحول، فأصبح أكثر انطلاقًا غير مبالٍ بوجود أحد حوله. 

استرسل فى الثرثرة بصوت مرتفع كأنهما وحيدان هنا، قطع حديثه جرس الموبايل، فالتقطه بسرعة قائلًا: ده شوقى.. إزيك يا أبو الشوق إنت مش باين ليه؟

أطلق ضحكة مجلجلة لا تتناسب مع المكان وهدوئه: أنا مع عروستى شوية وجايلك، حضر بقى القعدة، عندك فحم ولا أجيب معايا؟..

طب حلو كده شوية وجايلك.

استأذنت العروس للنهوض للحمام مستغلة انشغاله فى الحديث مع شوقى.

وحدث ما توقعته بالضبط!

اتجهت ناحية المخرج بسرعة كأن الشيطان يطاردها، لم تلتفت، تركت دمعة كانت تحبسها طوال هذا الوقت تنسال على وجنتيها.