رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آخر رمية نرد

فكرى عمر
فكرى عمر

رافق الانقطاع الفجائى للكهرباء صرخة من الداخل، قفز الأصحاب الثلاثة من مقاعدهم بغرفة الضيوف، لم يملكوا وقتًا لفهم طبيعة العلاقة بين الحادثين، فما كاد صاحبهم الرابع «جاسر» يلقى زهر النرد للمرة الأخيرة محققًا الفوز الحاسم، ويقوم مزهوًا يخطو إلى مطبخه لأمر ما، حتى انطفأ النور وحدثت الصدمة. حثهم الخطر على بعد خطوات منهم على الرد السريع الحاسم، وإلا هلكوا معه. تطايرت الزجاجات على البلاط وهم يندفعون باتجاه الباب، تكسرت إحداها، فأعاقت تقدمهم، وتمييزهم أصوات المتعاركين معه، ثم سمعوا كلماته المتقطعة مرة أخرى. 

«هناك شخص يكتم أنفاسه بلاصق، أو بكف يد ثقيلة»، هكذا استوعبوا الأمر. شعروا أن المهاجم كان ينتظر اللحظة المناسبة لينقض عليه، أو ربما أسهم المتواطئون معه فى صنعها.. أبينهم دخيل، أو جاسوس؟! لا يعرفون الآن شيئًا، فالظلام عطل قدرتهم على قراءة الخيانة فى عيون بعضهم البعض. 

خلال الأيام الأخيرة تكرر انقطاع التيار لمرة تطول لساعة، أو لمرتين قصيرتين. كان الأمر مستفزًا، فأجواء الخارج حينها كانت تملأ بضجيج احتجاج لأصوات بشر، وحيوانات تعبر إلى جلستهم خلال الشبابيك شبه المغلقة، تطير عبق السهرة، وتحطم أجنحتهم الخرافية داخل رءوسهم. الجديد هذه الليلة هو الهجوم الذى استثمر تكرار الظلام، ولم يستعدوا له. ما من شىء كهذا كان ليخطر على بالهم، فشقة «جاسر» عالية، مؤمنة بالأبواب، والشبابيك، وزحام الشوارع، وأكوام القمامة التى تبعد الفضوليين، حتى المقهى فى الجهة المقابلة: العابرون أغلب زبائنه. 

هل نسوا اليوم إغلاق الباب؟! فات وقت المراجعة. 

اقتحم آذانهم مرة تلو الأخرى دبيب اشتباك قوى بين جسدين، واصطدام بالثلاجة، والبوتاجاز، والأخشاب، والجدران. يشعرون بالنقلات السريعة، فهم يحفظون تفاصيل الشقة. طوال عام مضى جمعهم المكان فى سهرات أسبوعية شبه منتظمة. تجمدوا وراء مدخل الحجرة المغلق، التصقت أجسادهم تلقائيًا، تبعثر تماسكها الداخلى رجفة مؤلمة، وهم يتصورونه فى معركته المصيرية بقربهم. ارتجفت أقدامهم وقلوبهم، تراجعوا وارتموا على الأرض والكراسى فى انتظار دورهم، مشدودة آذانهم تلقائيًا إلى الجانب؛ لينصتوا إلى ما يشبه المقاومة بين صاحبهم، وذلك العدو، أو الأعداء الذين رافقوهم طوال الليلة دون أن يشعروا بدبيب أنفاسهم. 

«من يجرؤ على ذلك؟!». أخبرهم «جاسر» من قبل أنه يملك شقته هذه منذ عشرة أعوام، أغلب شقق البيت يسكنها أطباء يرحل آخر مرضاهم فى العاشرة مساء، أو محامون يغلقون المكان بعد انقضاء العمل المسائى، وساكن آخر، يأتى أحيانًا فى زيارات قصيرة. 

أرض المعركة بالداخل مطبخ مستطيل المساحة وضيق، زادته الأجهزة التى اشتراها مؤخرًا بالاختناق، والخطورة. أى خطوة، أو انحناءة خاطئة له أثناء العراك قد تعرّض رأسه للجروح القطعية، وعظامه للكسر، ربما كان المعتدون يخططون للهجوم أثناء طقطقة زهر الطاولة، أو وهم يلتهمون طعامهم، ويشربون، ويفرشون قماشة أسرار الأحداث الجديدة التى شاركوا بها. هكذا فهموا الآن من الصوت فقط كل شىء. صحيح أنه يجيد الحركة بشقته فى الظلام قبل النور الخفيف الذى يفضلون السهر فى أجوائه، ويستطيع الالتفاف بمهارة، لكن قوة الانقضاض المفاجئ لم تعطه الفرصة للتفكير، ولا هم أنفسهم استطاعوا التغلب على المباغتة. صار صوته توجعًا وأنينًا من وراء الحاجز الذى أغلقه. 

أعاد الثلاثة المحاولة، استند كلّ منهم إلى كتفى الآخرين، لقطع المسافة الحرجة إلى هناك؛ وإنقاذ رابعهم من إصابة قاتلة رغم الشكوك التى نبتت فى صدورهم، ثم ليعرفوا الحقيقة بعد ذلك، لكن قدمى أحدهم لم تقدر على حمله لحظات. يسقط إثرها متهاويًا بقلب يوشك على الانفجار. كان الصوت قد انقطع مع الكهرباء خارج جدران البيت أيضًا، أو ربما أفسح المجال لأصوات الزجاج الذى تشظى على البلاط، وصياح صاحبهم من مسافة قريبة، لكنه عاد من الشارع فى بضعة نداءات غامضة على أطفال، أو بنات، ثم تشوش إلى جمل متداخلة عالية النبرة بعد صدمة الظلام الأولى، ربما أضاء بعضهم فلاشات الهاتف المحمول، ليبصر ما أمامه، فلا يصطدم بكلب شارد، أو يسقط فى بالوعة ذات غطاء مخلوع.

«الإضاءة البديلة هى الحل الوحيد». كانوا يفعلون ذلك سابقًا، كيف راحت من بالهم هذه الفكرة منذ البداية؟! إنه الحادث الذى قيد حركتهم، بضع خطوات فقط إلى الصالة هى الشجاعة كلها، حيث تسكن التليفونات الأربعة الحديثة فوق السفرة؛ لأنهم يغلقونها، ويبعدونها عنهم كل سهرة؛ كى لا تقطع سيل الضحكات، وحكايات الماضى، وسرد كل منهم لأسرار جديدة فى الحى، أو المدينة. 

كل الاعترافات التى باحوا بها هى الآن بحوزة آخرين لا يعرفون هوياتهم. كانوا يكمنون لهم فى ظلام عدائى. اندفعوا يسندون بعضهم البعض، حتى أوقفهم صوت ارتطام جسم ثقيل بالبلاط، وأنين مخيف. تواروا وراء الباب مرة أخرى، وأغلقوه بالرتاج. تخيلوا جسد صاحبهم المنكوب، والأقدام الثقيلة التى تتحرك بثقة ومهارة دون أن تشعل نورًا يدل عليها. كان الحفيف عاليًا إلى درجة أن واحدًا منهم كاد يبول على نفسه من الرعب، والآخرون ينظر كل منهم فى عيون رفيقيه فى ظلام لم يعكس شيئًا سوى فحيح العتاب، وقد أنصتوا إلى باب الشقة وهو يفتح، ثم صوت أقدام كثيرة تجر جسدًا على السلالم. 

تحرك أحدهم باتجاه شباك الغرفة المغلقة، بيد حذرة فتح ضرفتى الزجاج ودعاهم للاقتراب، أبصروا من وراء الخصاص عربة سوداء تظهر كلما سقط عليها ضوء، ورابعهم، صاحب الشقة ومنسق السهرة، يساق مسنودًا من الجانبين، ويدفع من قفاه دون مقاومة، ثم يلقى فى كرسيها الخلفى، يحيطه رجلان وتنطلق بهم السيارة. 

بخطوة يائسة، وبعد عشرات المرات من التراجع، مضوا باتجاه السفرة، يحتاطون من شظايا الزجاج، تحسسوا موضع هواتفهم.. لم يجدوها فى مواضعها. كان السعى للوصول إلى المطبخ مغامرة لمعرفة بعض التفاصيل، لكنهم مضطرون إليها، لإيجاد ولاعة الغاز أيضًا والرؤية، أو البحث عن كشاف. الثلاثة لم يكونوا يدًا واحدة. هبط أحدهم إلى الأرض يتحسس شيئًا، لكنه لم يعثر أيضًا على ما يريده، وبرك آخر ممسكًا رأسه بيديه، ثم زحفوا مرة أخرى إلى الحجرة. أحسوا أنهم كانوا فى نظر المهاجمين من الضعة والتفاهة بحيث لم يلتفت إلى قوتهم، ولم يؤبه لردود أفعالهم، وربما كانوا الهدف القادم معًا، أو فرادى فى الساعات والأيام التالية، لذا ماتت الرغبة لديهم بإشعال الضوء، وحينئذ فاجأهم النور على غير توقع ولا استعداد.. اشتعل كطلقة رصاصة، أو لكمة فى الوجه، أبرقت العيون بالفزع، قفزوا من أماكنهم بصرخات قصيرة تحت وميض المصباح. «صاحب الشقة مخطوف، والسيارة قد تعود فى لحظة حين ينقطع النور مرة ثانية، وربما كان لأصحابها يد فى الأمر». نظروا تجاه بعضهم البعض بعيون مستريبة، وهم ينكمشون كل إلى دخيلة نفسه، حتى فكرة الهرب لم يتفقوا عليها بعد، وقد فردوا فى النور الخفيف سابقًا جميع أوراقهم الجديدة، وعلى وشك خسارة مكانتهم فى المدينة، ومقامهم الوظيفى العالى، وربما سجنهم.. سكنوا أماكنهم غير قادرين على تحديد الخطوة التالية بعد، تمنوا معجزة وحيدة: أن يضمهم الظلام مرة أخرى، ولتنغلق عليهم كل الأبواب والشبابيك تمامًا، ولتنطفئ كل أنوار الدنيا إلى الأبد.