رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شيزلونج العندليب وسندريلا| «حليم» من الزهرة.. و«سعاد» من المريخ

عبدالحليم حافظ وسعاد
عبدالحليم حافظ وسعاد حسني

قدران، يسير كل منهما فى خطه المرسوم له ثم يتقاطعان، هو تجرّع مرارة اليتم والنشأة القاسية بين جدران الملجأ الباردة، وهى عاشت بين أسرة متفككة وأب يمعن فى تعذيبها بزيجات متعددة.

هو يصعد إلى قمة المجد والشهرة بعدما تركت أظافره على الصخر علامات، وهى تطفئ بموهبتها ورشاقتها وحسنها البارع أضواء جميع النجمات فى زمانها، لتشرق وحدها بشمس النجومية والتفرد.

هو يسقط فى غرامها من أول نظرة ويطيح بالأشرار من حولها مثل فرسان الحكايات الأسطورية، وهى تعشق وتتزوج وتنفصل وتحب وتفارق، ثم تلتقيه وترضى به حبيبًا وتتملكها رغبة وإرادة عارمة فى أن تضحى بكل مجدها وشهرتها فقط لتكون زوجة و«ممرضة تحت رجليه» فى محنة مرضه المميت.

هو يولد فى مثل هذا اليوم ٢١ يونيو عام ١٩٢٩، وهى تسقط من الدور السادس فى شقة كانت تسكنها فى لندن، وتستقر على الأرض جثة بلا روح، فى نفس يوم ميلاده ٢١ يونيو عام ٢٠٠١.

هما حقًا- حليم وسعاد حسنى- قدران متقاطعان، رغم السبل التى تفرقت بهما والأحداث التى باعدت بينهما، والمنظور الذى نظر كل منهما إلى الحياة والواقع من خلاله.

هو يُضحى بالحب ويعوضه بشعور «المعشوق الأول للأنثى».. وهى لا تحلم إلا بدفء الأسرة وفارس يحميها 

رغم ذلك القدر المتقاطع، كان كل منهما يقف على برج بعيد عن الآخر، ليبصر الدنيا ويحلم ويرغب وينفذ ما أراده، ربما المشترك الوحيد فى ذلك أن كلًا منهما صعد على برجه بالشقاء والألم والمأساة، لكنهما ظلا فى منطقتين، كل واحدة لها مساحتها وطبيعتها وتعقيداتها وخصوصياتها الصارمة.

ربما يكون ذلك التباعد والتقارب والشد والجذب بين هاتين الشخصيتين الفارقتين فى التاريخ مثل أى حالة طبيعية بين رجل وامرأة، على اختلاف نظرتهما للأشياء ومشاعرهما ورغباتهما المتضاربة، أو على حد تسمية جون جراى لكتابه «الرجال من الزهرة والنساء من المريخ».

وإذا شئنا أن نضع خريطة نفسية للشخصيتين، فلا يمكن أن نجد جانبًا أكثر وضوحًا فى حياتيهما، مثل جانب المعاناة والإحساس المرعب بالفقد والحرمان وغياب أبسط قواعد الأمان.

كل ما رآه حليم وسعاد فى حياتيهما منذ الطفولة حتى النجومية، جعل كل شىء مهيأ لأن تنتهى علاقتهما وحبهما الجنونى بهذا الشكل من المأساوية والجروح التى لا تندمل.

الملف النفسى لحليم يتحدث عن طفل معذب يفقد والدته بعد أيام من ولادته، ثم يفقد والده فى العام الأول له وهو لا يزال رضيعًا، أما الطفولة فلا يوجد أقسى من العيش وسط أولاد أغراب، فى ملجأ عبدالعزيز رضوان فى الزقازيق.

الآن يجلس «حليم» على الشيزلونج، ونطالع فى وجهه نفس الملامح المعذبة التى طالما تأملناها فى لقاءاته التليفزيونية، نفس الصوت المنكسر والشجن الملازم لحديثه.

لم يكن سهلًا على فنان مثله أن يعمل مدرس موسيقى فى بداياته، ويشاء الحظ العثر أن يمر مسئول ولا يجده فى مكانه فى الفصل فيقرر رفده من المدرسة، ولم يكن سهلًا عليه أيضًا وهو ابن هذه الانكسارات أن ترفضه الإذاعة ٣ مرات متتاليات، ولا يُقبل إلا فى المرة الرابعة بعد تغيير أعضاء لجنة التقييم.

حين رأى «سعاد»، كان نجمًا مرموقًا له عشاق ومحبون من أقاصى العالم العربى إلى أدناه، لقد أبصر فى عينيها منذ الوهلة الأولى العالم الذى حُرم منه، اليد البضة الحانية والصدر الذى يذيب كل هموم الأرض والشَّعر الذى «يسافر فى كل الدنيا» ويظلل عليه فى هجير الشمس، والذراعين اللتين تدفئانه وتنسيانه أيام الطفولة الباردة.

كان حبًا من أول نظرة، حبًا شغل حياته، لكن تلك العلاقة لا يمكن لها أن تستمر دون شكل وإطار اجتماعى وشرعى.. إذن لا بأس، حتى ولو كان ارتباطًا سريًا.

ملف «سعاد» النفسى يتحدث كذلك عن مشاعر خوف وفقدان ثقة بالنفس كبيرة، فهى لم تنجذب لحليم، إلا لأنها رأت فيه البطل الذى يحيطها بذراعيه ويحميها، ويذيب آثار الماضى، آثار الغبن الذى عانته فى طفولتها بين أسرة تضم مطربة شهيرة هى «نجاة»، وهى الأولى والأجدر بكل الاهتمام والرعاية، أما هى فلا تزال صغيرة وعليها أن تنتظر وترضى بالقليل فى كل شىء رغم موهبتها الكاسحة.

لقد عرفت «حليم» فى أشد لحظات ضيقها واكتئابها ومعاناتها متعددة الأسباب، وحين ضغطت عليه لإعلان ارتباطهما لم يكن ذلك إلا صدى لأحلام الصبية البريئة التى لا تتمنى أكثر من «بيت صغنن فوق جزيرة لوحدنا»، أحلام الأسرة ودفء البيت والأمومة وغيرها.

يرحل عن الحياة فى عز شبابه ومجده.. تموت فى نفس يوم ميلاده وفى المكان الذى توفى فيه

وحين انفرط عقد الحبيبين وانسحبت «سعاد» لم يكن ذلك إلا انتصارًا لكرامتها بعدما ألقى «حليم» عرض الحائط برغبتها فى إعلان زواجهما، وهربًا من الألم الذى عاودها، ألم فقدان الثقة بالنفس القاتل.

لقد وقفت واجبات النجومية لدى «حليم» حائلًا أمام تحقيق رغبة حبيبته، فلا يمكن أن يهدر ميزة العزوبية التى تجعله المعشوق الأول للأنثى فى العالم العربى وتحافظ على سيل جماهيريته.

نعم للنجومية أحكام، لكنه لم ينسها، بل أكلت الغيرة قلبه ومزقت فؤاده، كان يتتبعها فى كل مكان، مع من سهرت، وكيف تقضى نهاراتها وإلى أين تسافر، وبمن تلتقى.

أما هى، فيتحطم قلبها، وتفلت منها جملة معبرة فى حوار تليفزيونى لها، حينما يسألها المذيع عن رد فعلها وعدم غضبها عندما غيّر مخرج فيلم «البنات والصيف» دورها من حبيبة «حليم» إلى شقيقته، لقد قالت بحسرة وهدوء: «كدا ألطف».

هو كان شديد الحرص على ألا يتوقف عطاؤه الفنى لحظة، لا يجب أن يؤثر شىء على غنائه وأفلامه رغم عذاب الفقد، وهى أدركت الحكمة فى بيت الشعر الذى يقول «وداونى بالتى كانت هى الداء» فتركت نفسها لقصة حب جياشة عاشتها مع المصور صلاح كريم الذى أبدع فى إخراج فيلمها الشهير «الزواج على الطريقة الحديثة»، لكن ويا للأسى لم يستمر زواجهما أكثر من عام.

فى أواخر الستينيات، كانت وطأة المرض تشتد عليه، وخضع لعدد كبير من العمليات الجراحية، لكنه يغنى، وتظهر فى صوته مرارة وحسرة وهو يغنى للحب، وهى كذلك لم يفارقها الاكتئاب والألم والشعور المزعج بفقدان الرغبة وفقدان الثقة والأمان.

لقد كانا جريحين بعد معركة دامية تركت جراحها آثارًا قاسية فى نفسيهما وفى جسديهما كذلك، كانا يتوهجان فنيًا لكن يذبلان نفسيًا وعاطفيًا، كبده كان ينتظر أن يتحول إلى عنقاء فتتجدد أنسجته البالية بفعل البلهارسيا، وهى وجدت فى زواجها الجديد بعلى بدرخان بداية جديدة ثم بحثت عن بدايات أخرى فى زيجات جديدة أيضًا، لا لشىء إلا بحثًا عن الأمان المفقود والظهر القوى الذى تستند عليه فى محنها التى لا تنتهى وأمراضها التى تكالبت عليها.

هنا تتقاطع الأقدار، فينهار جسد «حليم» ويسافر إلى لندن بحثًا عن أمل فى الشفاء، فيغيبه الموت فى ٣٠ مارس عام ١٩٧٧، وهى تصارع الاكتئاب وألم الظهر والسمنة، فتبحث هى الأخرى عن الأمل فى لندن أيضًا، وهناك تحدث الفجيعة فى ٢١ يونيو ٢٠٠١، وكأنها تتبعت خطاه حتى فى مكان موته فى العاصمة البريطانية.