موت العاشق الأخير
بووووووو... العاشق مات.
قالتها زوجة «الدوشى» بعد صرخاتها المتوالية بعد ما أخبرها زوجها الغفير بأن جنازة على العاشق فى طريقها إلى العزبة، تلك الصرخات أفزعت كل من سمعها، ولا سيما وهى تمرق كسهم بين الدور الطينية. لحظات وفتحت أبواب الدور المغلقة وتبدأ تقذف بالنسوة خارجها، ثم ينتظمن فى صف طويل كنهر أسود يجرى نحو المصب، ترددن فى البداية وظهرت الحيرة فى أعينهن خلف البراقع السوداء، قطعها صوت إحداهن:
قليل الخليفة يدوا عزاه لميييين...
ترد إحداهن وتمط آخر كلمة
يدوا عزاه لمين حاضريييين
لم تخف ثالثة حيرتها وصرخت فى وجوههن:
حنروح فين وحنعزى مين... داره مقفولة من سنين وملهوش حد...!!
شواشى النخيل تبدين جزعًا وتطأطئ رءوسها ثم تفرد شعرها فى الهواء، الرجال كسالى خرجوا من الدور كسحالى تخرج من شقوقها وتتجه إلى ساحة «الأشقر» وسط العزبة، فتبعتهم النسوة ولم يكففن عن الصراخ. الرجال جلسوا مسندين ظهورهم لحوائط الدور فى انتظار وصول جثمان «العاشق»، النهر الأسود لا يكف عن الجريان لأمتار ثم يقفل راجعًا فى طقوس لا تجيدها سواهن.
الجثة جايه إمتى؟
فى الطريق.
إيه اللى فكره بالعزبة!
هو افتكرها غير لما مات!
نسوة عزبتنا أشد لوعة وحزنًا من الرجال على «العاشق»... ولـ«على العاشق» حكاية يتردد صداها بين جنبات عزبتنا حتى صارت حكاية تروى لنا، نحن أطفال العزبة، كلما جاء ذكره حول المواقد فى ليالى الشتاء، أو فى جلسات السمر فى البراح فى ليالى الصيف. «العاشق» الوحيد من رجال العزبة الذى صرح بعشقه وحبه، فى حين يخجل الرجل حتى من مناداة زوجته باسمها، فيناديها باسم أحد أبنائها، وإن لم يكن هناك أبناء يناديها «أم الغائب»، فالتصريح بالحب عيب وغير جائز.
«العاشق» هام عشقًا بابنة «عيّاد» فى العزبة المجاورة «مرثا» التى لا تضاهيها فتاة فى جمالها-هكذا حكوا- لم يمنعه شىء من حبها، ولم يعتد ويأبه بالغضب الذى أثاره ذلك، فقط هو ببساطة شديدة أحبها، لم يكتم حبها فى صدره، بل باح به وأقسم أنها لن تكون لرجل غيره. أجج هذا الحب نار الغضب فى العزبة والعزب المجاورة. لم تفهم النسوة كيف للحب أن يُشعل حربًا لكن «العاشق» صار صورة للرجل المحب التى تتمناه أى امرأة. فى أحد الصباحات اختفى «العاشق» واختفت «مرثا» وانقطعت أخبارهما، لكن لم تنقطع الحكايات عن فراره مع محبوبته إلى «مصر»، وكعادة نسوة عزبتنا بدأن فى نسج الحكايات.
سنين كتيرة... وترجع الآن يا «عاشق» جثة!
حترجع معاك «مرثا» أكيد!
الكل فى شوق لمعرفة نهاية الحكاية التى سترويها بالتأكيد «مرثا» العائدة. النسوة يبكين بلوعة... وكأنهن يبكين حالهن وحياتهن الجافة، الخالية من كلمات الحب خلف جدران الدور، أو خلف ملابسهن السوداء، يبكين «العاشق الأخير فى عزبتنا أو ربما العاشق الأخير فى هذا العالم»، ربما لم يردن له أن يموت أو هكذا اعتقدن أنه لن يموت، فهن لا يقبلن فكرة أن «العاشق» مات.
تصل عربة الإسعاف لحدود القرية وتقف على مدخلها، فهذا منتهاها، لا تستطيع الولوج لدروبها الضيقة. يُنزل الرجال جثة «العاشق» ويضعونها على «المحفة الخشبية»، يتلفت الجميع يبحثون عن غائب... يبحثون عن «مرثا» فلا يجدونها. يحمل الرجال النعش ثم يتجهون إلى مسجد القرية... يغيب داخله للحظات ثم يخرج محمولًا إلى غرب البلد، حيث المقابر. تكف النسوة عن البكاء والصراخ ويبدأن فى الثرثرة..
أكيد مرثا خايفة تيجى البلد.
لا يمكن ماتت قبله...
ولا...
نسوة عزبتنا يبدأن نسج حكايات جديدة عن «محبوبة العاشق».