رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حاجات صغيرة

منال قابيل
منال قابيل

ولدت سعدية فى عام الجفاف، عام بخلت فيه الأرض بخيراتها. شحت المياه، مرضت البهائم وتلف المحصول؛ عكس ما حدث مع إخوتها الأربعة الذى جاء مع قدومهم الخير الوفير. فكانوا يطلقون على محمد «وش الخير» وعلى فاطمة «قدم السعد» وعلى الصغار، شمس وقمر «عين الغزال وفلقة قمر».

أما هى، بجسمها الهزيل وعينيها الزائغتين، اللتين تخفيان أكثر مما تفصحان، فكانت أمها تجتهد لتجمل حضورها، فتقول مثلًا، دى خامستهم.. هى التى ستبعد عنا العين والحسد.. وتفتح كفها فى وجه محدثها وتقول: «خمسة وخميسة». 

وكما لو أن الأم حدست ما ستكون عليه حال ابنتها.. فقد لاحظت أنها، ومع صغر سنها، كانت لها قدرة هائلة على إبطال النعمة. كانت عندما تنظر إلى لعبة أخيها بتركيز، تنكسر اللعبة أو تُعَطل أو يزهد فيها أخوها فجأة. أو إذا جاءت إحدى الجارات للزيارة ومعها طفلتها، يكفى أن تمعن سعدية النظر فى الحلق المخروط الذى ترتديه الجارة حتى ينسلت من أذنها.. ولو علقت بإعجاب على شعر الطفلة الحريرى المنساب لا يمر يوم إلا ويكون وصلهم خبر وعكة ألمت بالطفلة وألزمتها الفراش. 

لم يكن ذلك هو سبب منح الابنة إلى عمتها لتعيش فى كنفها، ولكنه أحد الأسباب، وإن لم تعترف أمها بذلك قط. فكانت تقول عن العمة: «مسكينة لا يعيش لها وِلْد، وأهو تشيل معانا الحِمْل».

اتخذت العمة من سعدية ابنة لها وكانت تعلن بفخر أنها لن تترك بيتها إلا عند دخولها إلى «بيت العَدَل» وكانت رتبت أن تزوجها من قريب لها يعمل فى العاصمة. وبالفعل تزوجت سعدية مبيض نقاش وانتقلت إلى حياتها الجديدة فى القاهرة. 

عندما اضطرت ظروف الحياة فى المدينة الكبيرة سعدية إلى الخدمة فى البيوت، انفتح أمامها عالم جديد رحب، على الرغم من أنها لم تفهم يومًا أهل المدينة ولم يفهموها. 

أحيانًا كانت تقص على إحدى السيدات التى تعمل لديهن حادثة عابرة موضحة أن عمتها هى التى ربتها، فتعلق السيدة بتأثر: «يا عينى يا سعدية وكنتِ بعيدة عن ماما طول الوقت ده!» أو أن تذكر أمام أخرى أنها كانت ترى إخوتها فى الأعياد.. فتقول السيدة مندهشة: «معقول اتحرمتى من اخواتك طول السنة!». 

بمرور الوقت بدأت تدرك ما يؤثر فى سيدات المدينة ويتلاعب بعواطفهن.

مع استقرارها فى المدينة وبداية بنائها وزوجها بيتًا من الطوب اللبن فى القرية، بدأت تختفى أو تنقص أشياء صغيرة من البيوت التى تعمل فيها. 

حدثت سعدية نفسها بأن تلك الأشياء لا بد أنها زوائد فائضة، ليست أساسية أو مؤثرة فى حياة أصحابها. فالسيدة لديها بدل القرط عشرون وبدل السلسلة سبع، وفكرت أن فقدان أحد الأقراط العشرين ليس بالأذى. وتأكد ظنها عند اختفاء سلسلة رفيعة ولم يتنبه أحد لفقدها. وكى تبرهن لنفسها على ذلك أخذت خاتمًا من الذهب لا بد أنه عيار ٢٤؛ لأنه شبيه بما كانت تضعه عمتها فى إصبعها، وحكت لها أنه الشىء الوحيد الذى ورثته عن أمها وكان لجدتها. لم يشكْ أحد، عند اختفاء الخاتم، فى الشابة المكافحة الغلبانة التى حرمت حنان الأم والأسرة. بدأت سعدية بالتقاط الحلى بطريقة ممنهجة وكأنها فى لعبة. فكانت لا تضع يدها على شىء فى غياب سيدة الدار عن منزلها، تحب أن تحافظ على حرمة البيت فى غياب أصحابه، فكانت تأخذ ما تريد عندما تكون الست موجودة.

تنتظر الفرصة حينما تكون السيدة منشغلة، تضع مياه التنظيف على بلاط الغرفة، وفى تلك الأثناء وبخفة ريشة ولمسة فراشة تلتقط صيدها تخبئه فى تلافيف جلبابها. بعد تجفيف الغرفة تبدأ حديثًا مع سيدتها، تعرف أنه يستهويها. 

عندما تختلى بنفسها تفكر: «الست طيبة لو كنت طلبت كانت أعطتنى، لو قلت إنى محتاجة ما كانت تتأخر عنى، لولا الحرج بس». 

عندما بدأت السيدة تستشيرها فى أمورها الشخصية وتأخذ رأيها فى بعض المشاكل التى تؤرقها، تأكد لسعدية إحساسها القديم أنه لولا الظروف ونشأتها فى بيئة قروية من دون علام لكانت لها مكانة كبيرة فى هذه الدنيا. تقاربها من بعض السيدات أعطاها ثقة هائلة جعلتها أكثر جرأة وحسمًا لدى التقاط صيدها، بل إنها ومع الوقت داخلها شعور بأن لها حقًا فى ما تُحَصِّلُه وتلاشى أى شعور بالذنب قد يكون ساورها فى لحظة ما. 

قبل نزولها القاهرة كانت سعدية تتذكر طفولتها بحنين وشوق كبيرين. تسرح فى ذكريات مفرحة مازالت حاضرة فى خيالها.. تسترجع شقاوتها مع أطفال القرية كيف كانت تتقدمهم جميعًا فى سباقات الجرى فى الفضاء المحيط بالبلدة وكيف كانت تسبح فى النهر وتصل إلى الضفة الأخرى قبلهم جميعًا وتختبئ خلف تلة مرتفعة لتبدأ لعبة الاستغماية والبحث عنها بين جذوع الأشجار والنخل الساكنة فى المكان. 

تتذكر كيف كانت تبكى من الابتهاج عندما تهبط من الزحليقة المرتفعة التى صنعها حسن من أغصان الأشجار الغليظة والتى كانت تنحدر مباشرة إلى مياه النيل، تغوص فيها وتقب منتشية.. تتخيل نفسها عروس البحر. كان قلبها يقفز من الفرح ولا تسعها الدنيا من السعادة. 

تحكى ذلك لهدى بنت مدام نادية بمرح وفخر وتستغرب من رد فعلها عندما تعلق قائلة: يا خبر يا سعدية كنت بتنزلى فى مياه النيل؟ والبلهارسيا!

تسترجع ذات مرة عندما كانت هى والصبية يبحثون عن نوى البلح للعب السيجا أوصلتهم الحيلة إلى استخدام فضلات المعيز الجافة التى تتخذ شكل الكور الصغيرة بديلًا عن النوى. اغرورقت عيناها وهى تحكى ضاحكة، بينما تلوى نهى بنت الست سناء شفتيها وهى تقول «يادى القرف يا سعدية.. يا دى القرف»!

كل مرة ترى فيها الهوة التى تفصلها عن هؤلاء الناس تتسع، كانت تمنى نفسها بالبيت الذى أوشك على الانتهاء، والذى أقامته وزوجها على ضفة النيل المواجهة للقرية، حيث كانت تختبئ فى طفولتها.

مع مرور الوقت أصبحت أكثر حساسية إزاء تعليقات البنات على حكاياتها، وأكثر استعجالًا لإنهاء البيت فى القرية وأقل حرصًا عند اقتناص الغنائم. حتى إن هدى قالت لها لأول مرة وبشكل مفاجئ: «فى حاجات ناقصة من دولابى يا سعدية، دورى عليها». بعد أيام قليلة تساءلت نهى وكأنها تحدث نفسها: أين البارفان! ثم التفتت إليها: شفتى الزجاجة يا سعدية؟» وعندما قالت لها مديحة، أقرب السيدات مودة إليها وأكبرهن سنًا، بنظرة فيها من التعاطف أكثر من اللوم: «لو محتاجة حاجة قوليلى». ردت سعدية بصوت أجوف لم تتعرف عليه: «أنا مش محتاجة.. أنا عندى بيت على النيل».