رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سفينة ورقية

فرح مجاهد عبدالوهاب
فرح مجاهد عبدالوهاب

 

 

 

اتكأ شاهين على عصاته الغليظة بيده اليمنى ووضع يده اليسرى على حرف الفرش ودفع بجسمه إلى أعلى، وفى ثوانٍ معدودة كان قد استقر فى جلسته على الفرش وسط أكوام الفواكه والخضروات التى قضى الساعات فى تسويتها بشكل يجذب الزبائن، وضع على يمينه منضدة خشبية صغيرة صنعت بمهارة ليضع عليها الميزان وبها درج صغير للنقود التى يرزقه الله بها حصيلة البيع طوال اليوم. 

لم يأمن شاهين لمكر الحكومة يومًا، بالرغم من أن رئيس البلدية يعرفه وسمح له بإقامة هذا الفرش فى هذا المكان الاستراتيجى أول السوق بعد أن شاهد عجز قدميه، إلا أنه عندما يسمع بحملة الإشغالات وشرطة المرافق سرعان ما يفتح درج النقود ويضعها فى جيبه وينادى على أحد الشباب ليحمل الميزان ويضعه فى صيدلية الدكتور عاصم وبعدها فص ملح وذاب، يختفى حتى المساء.

يعيد ترتيب فرشه ويجلس ليأخذ السهرة وهو يسمع أخبار ما جرى وما فعلته الحملة من لسان عم منصور القهوجى، يحضر له الشاى الثقيل ويحكى له كيف قلبت الحملة عربة اليد الخاصة بمسعد الشرقاوى؛ لأنه تباطأ فى دفع عربته بعيدًا، وأخذت ميزان حمدية ولم تستمع لصرخاتها وهى تصيح: ماذا أفعل يا أنجاس.. هل أبيع عرضى.. أم آكل لقمتى بشرف؟.. تريدون أن تثبتوا لرؤسائكم انتصاراتكم الوهمية على الضعفاء.. ربنا ينتقم منكم.

كان عم منصور يتكلم وهو يمثل بيده وجسده مع انفعال جعل العرق يتصبب من وجهه فى الوقت الذى أخرج شاهين علبة السجائر وأخرج واحدة منها وأشعلها وراح ينفث دخانها فى وجه عم منصور، فأثار حنقه:

يا أخى ارحم نفسك وارحمنى من هذا السم الهارى.. هل أنا أراجوز أمامك جئت من أجل أن أسلى حضرتك؟ وأخرتها تنفث فى وجهى هذا البلاء الأسود، لقد أخطأت من البداية حين جلست معك وتركت شغلى.

ترك المكان متجهًا إلى كشكه الخشبى فى الحارة الجانبية للسوق. 

جلس شاهين ينفث الدخان ورأسه يدور بأفكاره الدائمة.. لعله سيظل هكذا ينتظر مدى الحياة ذلك الغريب الذى احتال عليه، نسى أين رآه ومتى، ربما تقابلا فى شارع أو ردهة سجن أو عربة قطار.. ما عاد يتذكر.

قال له بعجلة وارتباك:

- لو سمحت سأرجع بعد قليل. 

وترك حقيبته واختفى ولم يظهر ثانية قط، هكذا خدع... تورط بمهمة شاقة.. مَن هذا وما هى محتويات هذه الحقيبة السوداء؟ 

مضت سنوات دون أن يفكر فى معرفة محتوياتها.. تمر عليه الأزمات المختلفة وحالات العجز التى يعانى منها، ولكن يقينه راسخ بعودة هذا الرجل. لم يعد يتذكر من شكله إلا أنه طويل ويرتدى طاقية غريبة الشكل. 

أخذت الدنيا تموج أمام عينيه كأنها سفينة ورقية اشتدت بها الريح فى يوم عاصف.

الأدخنة المتطايرة المتصاعدة تأخذ شكل دوائر تثير البهجة داخله كلما أخذ نفسًا عميقًا من السيجارة، تذكر وجه الطبيب العابس عندما صاح فيه:

أقسم لك أن لا شىء سينهى حياتك إلا هذا الدخان الذى يسعدك افتراسه صدرك.

تناول جريدة قديمة ليفرشها على المنضدة الصغيرة أسفل الميزان، لكنه توقف فجأة، كانت صورة الرجل الملونة تأخذ مساحة بارزة من الصفحة، تأملها لدقائق، استند على عصاته ونزل واستأمن الأسطى هلال العجلاتى على الفرش وغادر المكان سريعًا متجهًا إلى منزله.

من مجموعة «ألوان الوجع»