رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سجائر فرط

سمير الفيل
سمير الفيل

جذبها من شعرها بقوة، حتى إن خصلة حريرية طلعت فى يده، وهو يرمى بها خارج البيت. كان عتريس حباطة فى عِزِّ قوته وعنفوانه وجبروته، لا يطيق أن تعارضه امرأة مهما كانت.

وهى تخجل من ظلها، تكلمه وعيناها لا تثبت على وجهه حياء وخجلًا. كل ما فى الأمر أنه عاد فلم يجد الطعام فى انتظاره؛ لذا انهال عليها صفعًا وركلًا ثم جذبها بقوة فصارت خارج الشقة.

على العتبة تمددت وراحت تبكى فى نحيب مؤثر، وحين لعن «سنسفيل» جدودها لم ترد، ظلت منكمشة فى مكانها حتى انتهى من نومة القيلولة فتسللت إلى بيتها.

اسمه عتريس، ولا شأن لاسمه بفيلم «شىء من الخوف» حيث ترفض فؤادة أفعال الرجل الذى كانت تحبه، فتنضم لأهلها البسطاء. كل ما فى الأمر تشابه أسماء. 

مودة- التى لها من اسمها نصيب- امرأة طيّعة، مهاودة، ليست نكدية بتاتًا، لكنه الشرس الذى لم يجد من يقف فى وجهه.

فى الطابق الأسفل- تحتهما مباشرة- يسكن عوض أفندى الدخاخنى، وهو يعيش وحيدًا بعد موت زوجته، وزواج ابنيه وابنته الوحيدة. 

شقة واسعة يرمح فيها الخيل، بعد إحالته للتقاعد كان يقضى سحابة نهاره فى المقهى، وحين يعود يمر على محل البقالة؛ ليشترى سجائر فرط، ذلك أن الأطباء نصحوه بالإقلاع عن التدخين.

مالنا ومال الجار الذى يغلق الباب على نفسه، ولا يتواصل مع الآخرين بعد أن جرَّب مرارة العزلة فوجد أن الظفر براحة البال هو غاية ما يتمنى المرء.

فى الليلة التى أقصدها عاد عتريس مبكرًا، فوجد زوجته نائمة مع طفليها فريد وفيصل، تغلب عليهم ريح طمأنينة، لم يعجبه المنظر، فقد كان يتصور أن تكون فى انتظاره لتعد له طعام العشاء، دخل فجذبها كعادته من شعرها، سحبها لتكون خارج الشقة، بقيت قليلًا ثم استجمعت شجاعتها وطرقت الباب فخرج لها وركلها، أمرها أن تبيت ليلتها على درجات السلم حتى تتعلم الأدب، وكيفية التعامل مع الرجال.

شعرت بالتعاسة، حدث لها ما يشبه الإغماء، هبطت درجات السلم، دقت شقة عوض أفندى الدخاخنى، انخرطت فى البكاء، سمح لها بالدخول، مد يده بكوب ماء ثم قام فجهز شطائر خبز وجبن وشرائح طماطم.

من قسوة البرد وجدها ترتعش، كانت فى حضنه كالقطة، ضمها برفق ولم يفكر فى الفسق بها لكنه شعر بلدونة جسدها، وبرضابها الحلو. 

أسرع لبنطلونه سحب سيجارة فرط أشعلها، ومن يده تناولت فنجان قهوتها. 

قبل طلوع الفجر تسحبت؛ لتجلس على عتبة شقتها، فى السادسة صباحًا فتح باب الشقة، ركلها مرة أخرى فى هبوطه لعمله، فلم تبكِ بل دخلت الشقة، أغلقت الباب، تحسست جسدها كانت ثمة أصابع غريبة منحتها بعض الارتواء.

فى مرة أخرى طلب قميصًا أبيض فلما تأخرت عليه كرر الثلاثى المحفوظ: جذب قوى من شعرها، صفعة على الوجه، ركلة وهو هابط السلم.

دقت بأصابعها الباب، دخلت هذه المرة خائفة، سوف تُطرد لو أنه عرف ما يحدث فى الطابق الأسفل. اندفعت إلى حضنه، قبّلته بقوة، ضمها فى رقة، فى خليط من المشاعر تجمع الشفقة بالأبوة. دخلت المطبخ وأعدت كوبين من الشاى، ثم رأته يشرب من كوبه وهو ينظر لوجهها الصبوح ممتنًا، كانت تمسح بيدها بلطف على شعر رأسه، وتشم أنفاسه فتسكر.

بعد ساعة صعدت لبيتها، أيقظت طفليها، وهى تلوم نفسها على ما بدر منها، هو لم يكشفها، ولا فسق بها، لكنه ضمها بحنان، فاستراحت لتلك الضمة.

يقول أهل القص إن التالتة تابتة، طردها فى المرة الثالثة، كان نتيجة عودته المتأخرة بعد أن شرب عدة أدوار من الحشيش، جذبها إلى السرير فقاومت بحجة أنها متعبة، غير أنه صمم أن يفترشها بالقوة، فلما فشل فى المسألة جلس على طرف السرير منكسرًا ثم وجد أنها كانت السبب فيما حدث، لم تبادله المشاعر المتأججة، وبدت كلوح ثلج.

جذبها من شعرها، بطش بها أكثر من كل مرة، صفعها مرتين حتى إن أصابعه الغليظة تركت خطوطًا حمراء على وجهها، أخرجها بعنف، قال وهو يهددها: أقسم بالله لن تبيتى فى الشقة.

ظلت مترددة، خشيت من ضعف قد يعتريها فتستسلم للعجوز، طرقت باب شقتها لكنه لم يفتح لها بل أطفأ الأنوار حتى نور السلم.

كانت تعرف طريقها، وجدته يفتح الباب كأنه فى انتظار هذه اللحظة، هى التى ضمته، قربته من نفسها، تحسست جسده الهرم، أحست أنها تريد أن تقبّله حتى لو دخلت النار، وقد تمنَّع فى بداية الأمر غير أن حصونه تهاوت، وهى تلتحم به. 

كان الجو مهيئًا لاشتجار جسدين، غير أنه لم يفسق بها، ظل يقبّلها ساعة ونصفًا، كاد يغشى عليها وهى تشعر بحنان دافق يمنحه لها هذا الرجل. 

شملتها سعادة وهى تجهز له أطباق طعام بسيط من البيض والخبز والعسل الأبيض، ومربى الفراولة. 

استكانت فى صدره، غفت، وهو يكشف عنها غطاء الرأس، ويمرر أصابعه الغليظة المرتعدة بين خصلات شعرها الناعم.

لم يفعل ما يفعله الرجل بالمرأة، اكتفى بتهويمات حول الدوائر المشتعلة، لم تكن تريد أكثر من هذا.

فى الخامسة صباحًا تمددت على العتبة وكان الفجر يوشك أن ينبلج، بعد ساعة فتح الباب، لم يركلها عتريس لكنه رماها بنظرة نارية، ولقد صدم عندما لم يجد على وجهها أى مظاهر للبكاء.

قال فى نفسه: بنت الكلب تعودت على البهدلة.

هبط السلم بتعالٍ، وهو يتوعدها ببطش أكثر قسوة فى المرات القادمة لو تجاسرت وكسرت كلامه.

هى التى كانت تنتظر هذا الفعل، وتتوقعه، وكان العجوز لا يكف عن شراء السجائر الفرط حتى لا يرهق صدره الدخان الذى يتلف الرئتين، ويعطب الحنجرة!

من مجموعة تصدر قريبًا بعنوان «شارع التبليطة».