رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صفحة عن لبنى فى كتاب السحر

محمد أبوزيد
محمد أبوزيد

أجمل ما فى الساحرات الشريرات مقشاتهن، وأجمل ما فى هذه المقشات أنها لا تصدر الكلاكسات، لا تحتاج إلى تجديد الرخصة كل عام، لا تنشغل بزيادة أسعار البنزين وارتفاع أسعار النفط عالميًا، لا تضطر للانتظار فى إشارة ميدان الجيزة.

وكل ما حلمت به لبنى أن تملك مقشة، مقشة واحدة يا رب. تعود بها من جامعتها كل مساء، تضعها فى جراج العمارة، تطلب من عم سعيد البواب أن يلمعها و«يطوِّقها»، وفى صباح كل يوم تذهب بها إلى الجامعة، لا تحتاج أن تنتظر فى موقف الحافلات وتتحمل سخافات المعاكسات اليومية، لا تضطر أن تأخذ «سويفل» أو «كريم باص» لأن ميزانيتها الصغيرة لا تتحمل أن تفعل هذا كل يوم، لا تضطر أن «تلم الأجرة»، أو تسمع العبارة المعتادة «الكنبة الخلفية أربعة». ولأنها ساحرة، ستحول المقشة عندما تصل الجامعة إلى مظلة صغيرة، ترفعها فوق رأسها- صيفًا وشتاء- ويمكن بقدرات سحرية صغيرة أن تحولها إلى بالون، تصعد به إلى أعلى لتراقب الشوارع أو براشوت لتهبط وتعيش فوق الأسطح التى تعجبها، خاصة تلك المزروعة بالورد، أو حتى تجلس فيها حين تتعب من رفع يدها، وتطلب منها أن تعود بها إلى البيت.

لبنى حاولت أن تفعل ذلك كثيرًا دون جدوى، منذ طفولتها وهى تركب «المقشة» كالحمار، تضعها بين ساقيها، مثلما ترى الساحرات يفعلن فى الأفلام، وتدور بها فى أرجاء الشقة، وتتخيل أنها تطير، لكنها لم تكن تملك إلا الخيال. حاولت كثيرًا- عندما كانت تجلس وحيدة فى غرفتها- أن تختبر قدراتها السحرية، فربما تكون هناك طاقة مختزنة فى عقلها الباطن وتحتاج فقط أن تفك أسرها.

بدأت بأشياء صغيرة فى البداية، حاولت أن تركز قوة عقلها لتطفئ البوتاجاز على القهوة قبل أن تفور.. ركزت.. ركزت.. ركزت.. ثم فارت القهوة. حاولت أن تحوّل المعلومات فى كتاب الجغرافيا- فى الصف الثالث الثانوى- إلى عصير، لتشربه مرة واحدة وينتهى الأمر، لكن بلا فائدة. مرات كثيرة حاولت أن توقف الحافلة التى فاتتها، مدت يديها خلف الحافلة، رفعت رأسها إلى أعلى، أغمضت عينيها.. لكنها لم تفلح أيضًا، فقط نالت بعض نظرات الاستغراب والابتسامات الخفيفة من المارة وضحكات سخيفة من بعض المراهقين.

مرة أخذت معها قبعة إلى السوق، وعند بائع الطيور وضعت أرنبًا داخلها، لكنه استمر فى كونه أرنبًا، وحاولت هى طويلًا أن تقنع البائع أنها ليست لصة، بل ساحرة تخبئ الأرنب فى القبعة كى يتحول إلى ملوخية خضراء. طبعًا كانت هناك محاولات يمكن وصفها بأنها شريرة، عندما فكرت أن تحول أعداءها «زميلاتها فى المدرسة اللائى يخطفن منها الساندويتشات» إلى رمان، لكنها تراجعت فى آخر لحظة، لأنها- بصراحة- تخاف من بذور الرمان، التى تبدو لها كأسنان حمراء لدراكولا تستعد لالتهامها.

مسكينة لبنى.

لبنى مسكينة، وكما يعرف الجميع جميلة.

لبنى- كما يعرف الجميع من قبل أيضًا- طويلة.

لبنى غراء.. لبنى فرعاء.. لبنى مصقول عوارضها.. لبنى تمشى الهوينا كما يمشى الوجى الـ...، لا، بل تمشى بسرعة شديدة، إلى درجة أن من يراها تمشى بهذه الطريقة يشك أنها شبح ملوَّن مرق بسرعة، مع زيها المفضل؛ الجينز الأسود الكالح، والقميص الجينز الفاتح الذى تلبسه فوق تى شيرتاتها الملونة وتتركه مفتوحًا، وتاتو أسفل ساقها اليمنى، سيبهت حتمًا بعد عدد من السنوات، بعد أن تكون قد نسيت معناه، وبعد أن تكون قد نسيت أمر مقشة الساحرات تمامًا، وانشغلت بالجرى بها وراء أطفالها الذين لا يكفون عن تكسير الأكواب الصغيرة فى النيش، قبل أن تتوقف مسندة يديها إلى ركبتيها وهى تنظر إلى المقشة على الأرض فى حسرة، وتتذكر.

مقطع من رواية «ملحمة رأس الكلب»