رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العجوزان

محمد محمد السنباطى
محمد محمد السنباطى

دائمًا يراهما الناس معًا، العجوز وزوجها الضرير. يدها معلقة بذراعه التى تحولت إلى غصن يابس، ونظارته السوداء تلمع فى الشمس حتى لو كانت مغبرة بالتراب، بينما وجهه دائمًا إلى أعلى فى شموخٍ مرهقٍ واسترجاعِ ماضٍ حالمٍ وعزةِ نفسٍ غابرة. تراهما كأنما يتدحرجان من تل: فى زحام السوق، وإلى طابور الجمعية، وأمام نصبة بائع الفلافل. فى كل مكان. يتكئ أحدهما على الآخر. إما أن تكون هى أكثر نشاطًا منه فتقوده، وإما أن يكون هو المشبع بحيوية عارضة فيفرد صدره يتقدمها وأيضًا تقوده. يتعبانِ من المشى فيجلسان على أحد الطوارات بعضَ الوقت حتى ترتاح رُكَبُهُما المضعضعة. تسبقه هى إلى القعود، بينما يتكئ هو على عصاه، وساقاه ترتعدان لحظاتٍ قبل استقراره العارض. فى تلك الاستراحة يمكنها أن تفتح حقيبتها الشبيكة وتُخرج رغيفين طريين وبضعة أقراص من الطعمية، تهرسها فى الرغيفين وتناوله واحدًا. غالبًا يتناولان فطورهما هكذا فى المطعم المفتوح من الطريق! عيون كثيرة تبتسم لهما.

- اتفضلوا! بسم الله!

فى زمانه القديم قبل أن ينطفئ بصره كان فنانًا يرسم لوحاتٍ مسكونة بآياتٍ قرآنية بأنواع مختلفة من الخط، لكنها كلها جميلة. لم يرث أحدُ ابنيهما عن الوالد براعة الخط. كان يتمنى أن يكون أحدهما سنده وعكازته. ما زال يحتفظ بأشكال الحروف العربية فى مخيلته وفى عينيه المنطفئتين خلف نظارته الشمسية. الحروف لا تزال حية ومبصرة. أحيانًا يرتفع حرف الألف كصاروخ ينطلق من قاعدته باتجاه القمر. أما حرف الباء فقارب يشق النهر فترتطم نقطته أحيانًا بصخور القاع، فيشعر هو بألم فى معدته. نقل له أبوه وهو يعلمه الحروف قولَ أحد الصوفية إن حرفَ الميم هو الذى يفرق بين «أحمد» والـ«أحد» فلا يجعل نبينا يفنى فى الله، بل يحتفظ بعبوديته حتى عندما صار قاب قوسين أو أدنى. 

- مش فاهم، قال لوالده. ويبدو أن والده أيضًا لم يفهم فهرب متحدثًا عن حرف آخر: والقاف يرمز لجبل قاف الذى....

- الطعمية لذيدة فعلًا يا مريومة!

كان لهما ولدان ابتلع الفيضان أحدهما والثانى تزوج أجنبية سحبته معها إلى بلادها، وبقيا وحدهما فازداد ارتباط أحدهما بالآخر. ينتهى قبلها من التهام الرغيف فيسألها إن كان يمكن مواصلة السير.

- أنا لسا ما خلصتش أكل.

- سامعك بتمضغى. على مهلنا يا ستى، يعنى ورانا الديوان؟

- أعمل لك كمان سندوتش؟ 

بعد ثوان تقف حاملة حقيبة المشتريات. ينهض وعصاه تعينه. توكلنا على اللى بيوكلنا. يدها الأخرى تتعلق بذراعه. يسألها: نسينا حاجة؟

- حاجة إيه؟

- قولى إنتى.

- لو فاكرة كنت اتكلمت.

- تعالى نفوت على الأسطى مدبولى ييجى يصلح فرن البوتاجاز ويطمّنا على سلامة مفاتيحه. مابخافش من حاجة خوفى من تسرب الغاز.

- كان المفروض نفوت عليه والشنطة فاضية.

- هاتيها أشيلها.

- إنت مفاصلك تعبانة الله يكون فى عونك.

- أنا كويس.. هاتيها.. تعرفى يا مريومة، أنا نفسى أشترى عودين قصب!

- إنت لك سنان؟ تعال نشرب عصير أحسن.

- لا، أنا نفسى فى عود قصب تلاتة متر. غليظ، أعافر معاه لغاية ما أمصه. شوفى، يا إما أخلص عليه أو يكسر ضبتى!

- إنت لو تحارب إسرائيل أسهل. تعال. استنى.

تركته واقفًا والحقيبة بيده ودلفت إلى محل العصير. رغم الزحام لمحها الواد مرزوق وناولها الكوبين. كل الناس يعرفونهما ويضربون بهما المثل فى الإخلاص للعشرة الطيبة. 

- وقفينى فى الضل.

- تعالى.

يشرب العصير ويرد على تحية صبى المحل. الله يكرمك يا مرزوق، إنت ابن حلال. يمسح فمه بكم جلبابه. الحقيبة بيدها. يسيران فى اتجاه كشك الأسطى مدبولى. 

- زمانه لسا ما فتحش.

- تعالى بس تعالى.

- نقعد شوية هنا.

- نقعد، ما نقعدش ليه؟

اختارت مصطبة بيت الحاج السمادونى وجلسا. يردان على تحيات العابرين. هواء رطب يسقط عليهما من أعلى بعد اصطدامه بعمارة عالية. الناس يتفاءلون برؤيتهما. يقولون: الدنيا لسه بخير. يسألها:

- إحنا قربنا من جسر النيل؟

- قربنا.

- خلاص، نقعد هناك. العصير تلجه كتير يا مريومة.

- شربناه وخلاص.

- الساعة تطلع كام؟

- الساعة واقفة من زمان.

منذ عشر سنوات وهما على هذا الحال. صار الناس يتبركون بهما. حتى جاء يوم. سألته فجأة:

- أختى كسبت القضية وهتصرف معاش أبويا المتجمد من خمس سنين.

- من حقها.

- من حقها ليه؟ هى موظفة.

- لكن من حقها.

- أنا عايزة أقاسمها فى المعاش. أبويا الله يرحمه هو أبوها تبقى تاخد فلوسه ليه وحدها؟

- هى ظروفها كده. زوجها اتوفى من زمن.

- أنا عايزة أقاسمها فى المعاش. فاهمنى؟

كانا قد وصلا عند مقام سيدى الوردانى. ألقى التحية على حارس المقام فهرع إليه. كالعادة يقبل الحارس كتفه. يدس فى يده بعض الفكة. الحارس يدعو له بأن ينير الله بصيرته.

- الفاتحة لصاحب هذا المقام.

تقرأ هى الفاتحة هذه المرة برجاء أن يساعدها الولى فى اقتسام المعاش مع أختها.

- لكن إنتى جوزك موجود.

- ماليش دعوة. عايزة أقاسمها.

- تبقى عايزانى أموت عشان تقاسميها.

- لأ. نشوف حل تانى.

- مافيش حل.

- لأ فيه. نتطلق كده كده.

- نتطلق؟

- طلاق صورى. إنت عارف أختى هتاخد كام؟ ييجى عشرين ألف.

- ده معاش الخمس سنين اللى فاتت. من نصيبها ولا يمكن تقاسميها فيه. طلعى الموضوع ده من دماغك.

- يعنى ما ينفعش نتطلق بأثر رجعى من خمس سنين؟

- عايزانى أطلقك بأثر رجعى؟ إزاى؟ الظاهر الشمس لحست نافوخك.

- امسك الشنطة. إنت سايبها لمين؟ خد شيل.

- إنتى اللى مصممة تشيليها.

- شيلها إنت. خلاص أنا تعبت ومش قادرة أستحمل.

- أقولك على حل أحسن من كده. نبعت جواب لابننا اللى فى بلاد بره يبعت لنا قرشين.

- إحنا عارفين له عنوان؟!