رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إدوار الخراط.. أنت معنا

حلت فى الأول من ديسمبر الجارى الذكرى السابعة لرحيل الأديب إدوار الخراط فى عام ٢٠١٥، وقد ربطتنى به محبة وثيقة منذ أن قرأت مجموعته القصصية الأولى «حيطان عالية»، وكان قد كتب قصص المجموعة عام ١٩٤٣، حين كان ما زال ملتزمًا بالرؤية اليسارية بل عضوًا فى منظمة يسارية، ولهذا راوحت قصصها ما بين الواقعية النقدية وما أسماه الخراط فيما بعد «الحساسية الجديدة». وبذلك الصدد يقول: «قمت فى فجر شبابى المبكر بالعمل السياسى المباشر، العمل السياسى الثورى، المناهض للنظام الملكى القديم، واعتُقلت سنتين أو أقل قليلًا فى أيام فاروق.. لكن بعد هذه التجربة.. وجدت أن المجال الوحيد الحقيقى الذى أتصور أننى يمكن أن أفعل فيه شيئًا.. هو مجال الأدب، والإبداع الروائى بالذات». وتصادف أن علاقتى بالخراط انتقلت من مجرد الإعجاب بكاتب لا أعرفه شخصيًا إلى صداقة قوية حين التحقت بالعمل فى منظمة التضامن الآسيوى الإفريقى عام ١٩٦٧، وكان يترأسها يوسف السباعى بينما كان الخراط ذراع السباعى اليمنى فى المنظمة، والشخص الثانى فيها، فأخذ يدعونى إلى منزله فى الزمالك، وكان يحضر من حين لآخر يحيى الطاهر عبدالله، الذى كان يكرر للخراط كثيرًا أنه- أى يحيى- سيترك الأدب ويعمل سائق تاكسى! فيما بعد ضحك إدوار وقال لى: «ظننت أول الأمر أنه يتكلم جادًا، فكنت أحاول مرة بعد الأخرى أن أثنيه عن ذلك، إلى أن انتبهت فجأة أنه غير جاد فيما يقول لكنه يبتزنى عاطفيًا لأقول له وأعيد عليه إنه كاتب موهوب لا يصح أن يهجر الأدب، وحينئذ رحت أقول له: (عندك حق يا يحيى.. ماذا جنينا من الأدب؟ نعم فلتعمل سائق تاكسى)! ساعتها أدرك يحيى أننى اكتشفت لعبته فكف عن ابتزازى عاطفيًا!». وكنت أحب فى إدوار الخراط وهو يحكى نظرة عينيه التى تدعى المكر لتخفى الطيبة والسماحة كلها، وكنت أرى أيضًا كيف يهدر من عمره على الوظيفة فقلت له فى بيته ذات مرة: «لماذا لا تبيع شقتك هذه الواقعة فى الزمالك وتشترى شقة أخرى صغيرة فى منطقة بعيدة وتعيش على المال الفائض من فرق السعر، تكتب وتبدع من دون وظيفة؟»، فابتسم قائلًا: «لا أستطيع أن أغيّر سكنى، اعتدت على المكان». عام ١٩٨٨ زار الخراط موسكو وكنت ما زلت أدرس هناك، ولم نفترق تقريبًا خلال زيارته، وحين عاد إلى القاهرة بعث إلىّ بخطاب ما زلت أحتفظ به، يقول فيه: «القاهرة فى ٧ نوفمبر ١٩٨٨.. عزيزى أحمد.. لست أدرى كيف أعبّر عن شكرى لك لعنايتك بى ولاحتفائك ولا عن إعزازى ومحبتى. أصبحت موسكو الآن مرتبطة بوجودك بل أصبحت أحبها لأنك موجود بها». نشر الخراط أكثر من خمسين كتابًا ما بين التأليف والترجمة والنقد، وروّج لفكرة «الحساسية الجديدة» فى الأدب بعدة مقالات، جمعها فى كتاب «الحساسية الجديدة» عام ١٩٩٣، وكانت ردًا على الواقعية النقدية التى كان نجيب محفوظ وغيره يمثلونها، وكان يعنى بتلك الحساسية الجديدة الطرق الفنية والرؤى التى تختلف عن الأدب الواقعى السابق، لكن المصطلح- استخدمه الخراط، ومن قبله د. لويس عوض- ظل فضفاضًا إلى حد كبير. ومع أن الكاتب الكبير كان دمثًا للغاية ويبدو شديد التواضع، إلا أن داخله كان مشبعًا بالاعتزاز بنفسه وبدوره، ويتضح ذلك من حديث له فى البرنامج التليفزيونى «صباح الخير يا مصر» بعد فوز نجيب محفوظ بنوبل حين قال الخراط: «الوحيدان اللذان يستحقان نوبل هما أنا وأدونيس، أما نجيب محفوظ فموهبته متوسطة»! يبقى العزيز الموهوب الكبير الراحل إدوار الخراط معنا، بكل ما تركه من روايات وبإخلاصه لرؤاه، وتصوراته، وللأدب والفن، وبأحلامه التى حلقت عاليًا فى سماء الأدب.