رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آلان دونو.. نظام التفاهة

فى كتابه «نظام التفاهة» يصب المفكر المعروف آلان دونو، الأستاذ بإحدى الجامعات الفرنسية، غضبه غير المحدود على عالمنا المعاصر، ويسم النظام العام السائد بأنه «نظام التفاهة». ويعرّف ذلك بقوله إنه: «النظام الاجتماعى الذى تسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحى الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضًا عن العمل الجاد والملتزم».

ويصب المفكر المعروف جام غضبه على ذلك النظام، على قواه اليسارية واليمينية، وعلى الوسائل التى يُحكم بها قبضته على العالم بدءًا من التليفزيون والجامعات والفنون وأشكال الديمقراطية النيابية وحتى على البشر، حين يقسمهم إلى خمسة أنماط تعبّر عن التفاهة التى يرى أنها قد بسطت سلطانها على كل أرجاء العالم، بحيث صار للتافهين القول الفصل فى كل الشئون العامة والخاصة وليس فقط فى بلدان الأطراف النامية، بل فى عقر دار أمريكا الشمالية وأوروبا.

إذن هو يحدثنا عن ظاهرة عالمية تقود البشر، حسب تعبيره، إلى «الإغفاء بدلًا من التفكير، والنظر إلى ما هو مقيت كأنه ضرورة، فتحيل البشر إلى أغبياء».

ووفقًا للكاتب، فقد انبثق هذا النظام وساد بعد أن أحالت الرأسمالية العالمية المتوحشة الناس إلى مجرد آلات مسخّرة لتحقيق فائض الإنتاج اللازم لاستمرار أرباح المنظومة الاقتصادية الرأسمالية، مما أدى حسب تصوره إلى تخريب منظم لكوكب الأرض إنسانيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وبيئيًا وعلميًا وفنيًا، تخريب على أسنة رماح الترسانة العسكرية والحربية وبمشاركة القوى الناعمة من أكاديميات وعلوم وفنون وإعلام.

يصب آلان دونو غضبه على الإذاعة والتليفزيون على أنهما جهازان لتعميم أيديولوجيا التفاهة ونشرها، ويصب غضبه بشكل خاص على الأكاديميات ومراكز البحث العلمى والجامعات التى صارت بؤرة للتفاهة منذ أن أصبح شعارها على حد قوله: «تفصيل العقول وفق احتياجات سوق العمل»، ومن ثم فإن الأكاديميين فى نظره: «ليسوا مثقفين ولكن مجرد خبراء» يقومون بالتخديم العلمى على احتياجات السوق، محكومين فى ذلك بمراعاة الضرورات التى تفرضها حرفتهم.

ويرى آلان دونو أن نظام التفاهة يتجلى أوضح ما يكون فى الفنون التى انغمست فى كل الممارسات والأساليب الغريبة عن الفن والترويج لقضايا لا علاقة لها بهموم المجتمع.

ويقول فى ذلك السياق: «ليس من الضرورى لكى تكون فنانًا فى نظام التفاهة أن تتمتع بموهبة أو مهارات محددة، أو أن تكون عندك رسالة أو كلمة نافعة، قل أسخف السخافات، ولا تهتم، فهذه هى البوابة النموذجية لدخول عالم الفن بكفالة وضمان نظام التفاهة».

وحسب قوله، فإن المهم هنا «عدم إفساح المجال لبروز الفكر النقدى.. بحيث يبدو الفن إكسسوارًا لا هدف له سوى تنشيط الحياة العادية، زركشتها، وجعلها أكثر حسية».

يولى آلان دونو اهتمامًا خاصًا بالميادين الأكاديمية فى بلورة واستمرار نظام التفاهة، حين يعتقد أن المركز الرئيسى فى عملية سيطرة التافهين على مفاصل الحياة المعاصرة يبدأ وينتهى بالميادين الأكاديمية من جامعات ومراكز علمية وما شابه. وتبدو صيحة آلان دونو أشبه بصرخة احتجاج قوية ليس فقط فى مواجهة التفاهة، بل أيضًا فى مواجهة عجز النخبة عن تغيير الوضع الحالى السائد الذى يحول التفاهات إلى قيم ثقافية واجتماعية، ويلقى بها إلى عموم البشر لتتمسك بها.

ومع تعاطفى مع صرخة آلان دونو إلا أننى لا أستطيع تأييده فى تعميم صورة نظام التفاهة، بحيث يبدو الأفق خاليًا من كل بادرة إدراك أو مقاومة، ولنأخذ على سبيل المثال تركيزه على المجالات الأكاديمية بصفتها مركزًا لبلورة سيطرة التافهين، وهنا يجب التذكير بأن تلك المراكز طالما أخرجت لنا علماء وأدباء ومفكرين عظامًا، ثم أليس آلان دونو نفسه أستاذًا ودكتورًا فى الجامعة الفرنسية، أى فى أحد تلك المراكز؟ وأليس صدور كتابه هذا دليلًا ينقض نظرته العدمية إلى الأكاديميين؟ علاوة على ذلك فإن من قامت بترجمته هى أيضًا أكاديمية، دكتورة مشاعل الهاجرى؟!