رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحن إليكِ دائمًا

ياسر جمعة
ياسر جمعة

تجلس أمام مرآتها، على مقربةٍ من نافذة الصباح المشمس، وبقايا النوم فى عينيها واضحة، لتبحث عن الشعرة البيضاء التى حلمتْ بها. 

تبحث أولًا فى الجانب الأيسر، الغزير، وهى تعلم أنها لن تجدها هنا، مع أنها كانت بهذا الجانب فى الحلم، ثم ترفعه خلف أذنها، فيظهر عنقها الناصع، كجذع شجرة، تحت وجهها المنحوت بذقنه المدبب وأنفه المستقيم، وتفرد شعر الجانب الآخر، وما إن تلمس أطرافه ثديها، كمثرى الحجم، تشد ظهرها فيبرز أكثر، تتأمله، غير أنها، ما إن تلمح سريرها غير المرتب، خلفها، تشعر بغصةٍ، يعبس لها جبينها الواسع ويتقوس حاجباها الكثيفان، فتقف، منتفضة، وتقترب مائلةً من المرآة.

تزفر وتسترخى ملامحها كمن حصل على كل ما يريد من الحياة عندما تجد الشعرة البيضاء أخيرًا، فى المقدمة يمينًا، مع أنها بحثت فى هذا الجزء أكثر من مرة، وكانت، ببياضها الساطع، مثل طريق أخذتها مباشرة إلى زمانها القديم، فرأت، بعين الحنين المصاحبة لها منذ مدة، العجوز التى كان يناديها الكل، آباءً وأبناءً، فى الحارة التى بدلتها الأيام، بالجدة، وحضرها صوتها، المنحول، وقد رق، وهى تفيض بحكاياتها ما إن تشاغبها إحدى النسوة بسؤال عن زوجها، الذى يعلم الكل أنه غاب عنها بعد أيام من عرسهما، فظلت فى انتظاره صامدة مثل الزمن والحزن، رغم جمالها الكاوى لرجال زمنها ولوم الأهل، الذين تساقطوا من حولها واحدًا بعد آخر، لتبقى بين الناس كشجرة جافة.. وحيدة إلا من ونس حكاياتها التى تتذرع بأى سبب لتحكيها، وإن لم تجد من يسمعها، تحكيها لنفسها بين جدرانها الكالحة، فى الليل خاصة، وما تلبث أن تنوح.. تنوح بما كان يظن الصغار أنه صوت العفاريت، وحدها من كانت تجادل أترابها، عندما يجمعهم اللعب فى النهار التالى، وتقول لهم إنه صوت الموت، وكى لا يسخرون منها، كانت تلفِّق حكايات مخيفة عن العجوز، وما إن ترى تأثير ما لفَّقتْ فى العيون التى أخذت تتَّسع محدقة فيها، تسألهم عن لون شعر الناس عامة، يجيبون بصوت واحد:

- أسود.

فتخبرهم، بصوت هامس وجسد مرتجف من شدة الانفعال، أن الموت عندما ينعس ويريد أن ينام قليلًا يختبئ فى جسد إنسان، وما إن يفعل، يصير شعر هذا الإنسان كله أبيض مثل القطن، وقبل أن يفيقوا من ذهولهم، تقودهم ليشاهدوا شعر العجوز، الأبيض مثل القطن، فما يكون من العجوز، أمام طنينهم المستفز، إلا أن تثور، وتلاحقهم بجسدها المتهالك وهى تسبهم وترميهم بالحجارة الصغيرة، فيركضون خائفِين.

- شريرة.

ترددها مبتسمة وقد سال من عينيها الحنين، ولمع، لهذا الصوت البعيد.. صوت حبيبها الذى لفظ آخر أنفاسه فى حضنها بعد زفافهما بأيام، عندما أخذتهما أقدامهما إلى الميدان فى اليوم العاشر للثورة، والذى كان يقولها وهو يضحك معقبًا كلما حكت له واحدة من حكاياتها هذه، ولكنها تقاوم الحنين والدموع التى ترقرقت، وتخلِّص الشعرة البيضاء من الخصلة السوداء حولها، وتفردها أمام وجهها، وقد تلاشت منه الابتسامة، وهى تفكر أن تنتزعها، وما تلبث أن تردها مكانها مرة أخرى، وتعود إلى السرير وهى تلم شعرها كله فى كعكة خلف رأسها، وتمسك هاتفها المحمول وتتكئ، منفرجة الساقين، فيطل ثديها من الطوق الواسع لإبطها الأيمن، وتكتب، فى صفحتها الزائفة فى الـ«فيسبوك»، كل تفاصيل حلمها، غير أنها تحذف ما كتبت وتفتح الماسنجر، وتكتب: أحنُ إليكِ دائمًا. وترسلها إلى صفحتها الحقيقية، وتغلق الهاتف وتقوم لتستحم.