رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رقاصة

زهير بوعزاوى
زهير بوعزاوى

غيبتنى قصرًا عن عيش الحياة مرارة البطالة، وشقاء البحث عن عمل، تورمت قدماى وأنا أطارد سرابًا فى متاهة الضياع، منطاد أهدافى الشاسع، تفض إبرة الوساطة مطاطه، كلما اقتربت من معانقة الحلم، أوقظتنى قولة أرسلنى فلان، ويأخذ قائلها مكانتى، دون استحقاق أو كفاءة، حينها يصيرنى الخواء، وتجترنى الحيرة، وفى كل يوم أعود مهزوم العزيمة، أرتمى فى حضن التعاسة، منتظرًا أن ينفذ ضوء الفرج، حتى يزيل العتمة عن كربتى.

تتسلل أشعة الشمس عبر هوة صغيرة فى الحائط، تستعير منها غرفتى بعض النور أكره تشغيل الكهرباء، لأن فاتورته الغالية تنهش جيبى الفقير، أتأمل السقف فى شبق، والغطاء يلتحف جسدى الهين، أناجى فى خشوع تام الحظ، عساه يزور قبتى، وإن بغى النذر تقربت له بسخاء منقطع النظير.

أمى فى كل صلاة ترفع أكف الضراعة لرب السماوات والأرض، تطلبه فى إلحاح، أن يباركنى بعمل ينهى معاناتى المتواصلة، أما أبى فقد ترجل عن صهوة الحياة، غادرنا إلى دار البقاء، وتركنى عرضة للخيبات، فقدت الدرع الحامية، وجيشى فى أعتى المعارك، وفاقد أبيه قبل أن يشتد عدوه، كمن فقد أطرافه.

كل مساء يهتز هاتفى على وقع اتصال من رفيقى فى محن الزمان محسن، قبل أن يغادر إلى أرض الغرب وبالضبط إيطاليا الحلم، التى راودتنا عن نفسها فى ثوب العروس سنوات، ظفر هو بيدها وبقيت أنا أعزب فى وطنى تتقاذفنى الويلات.

يفتح كاميرا تطبيق الواتس آب، يجلس وسط منزل فاخر، رهيب التصميم، ثريا باهظة الثمن، تتوسط السقف، لوحات دافينتشى تزين الحائط، تماثيل النحات العالمى دوناتيلو تزين كل مدخل، والفسيفساء غطت كل ربوع المكان، كأنه سلطان يستوى على العرش، ينعم بملذات الحياة وهباتها.

يعيش حياة الملوك، ترك الأدران والفقر هنا، وعانق الغنى ورغد العيش هناك، أخبرنى بأنه انضم لصفوف مافيا خطيرة فى العاصمة روما، بعد أن رأوا منه الشهامة وصيانة الأمانة، وأصبح يد الرئيس اليمنى.

يرسل لأمه مبالغ مهمة، تفتخر به بين الجميع، تمجده كأنه البشرى الوحيد، وفى كل مرة يتصل بى، يواظب على تذكرى بالترف الذى يعيشه، كأنها فريضة لا تؤجل، يوصينى بكتمان سره، وعدم الإفصاح عن ماهية عمله لأمه وبقية سكان القرية، ثم يوبخنى عن بقائى فى جلباب الفقر المدقع، تجحفلنى الحاجة، ويغبرنى عجاج العوز، يهشم قوقعتى الرخامية، القابعة فى مكانها، راضية بفتات الحياة، بصخور الاستهزاء والتوبيخ دون نكوص، يرينى عيشه البهى، شاكرًا طموحه الذى أوصله لمراتب العلى والبذخ.

زار وفد إيطالى قريتنا المهمشة، قابلتهم بالحسن والكرم، وضيافتهم فى بيتنا، سخرت لهم ما فى حوزتى من وسائل، أطعمتهم الجيد، وافترشت لهم الأجود، كنت مرشدهم فى الجبال الوعرة، ولسانهم الذى يحدث أهل القرية لتمكنى من اللغة، عند اقتراب عودتهم، قرروا أخذى معهم، كعربون محبة، وشكر لما أبديته من جود فى خدمتهم، وعلمهم بمستواى الدراسى، وطموحى الجامح لتغيير وضعيتى الهشة، حينها تأكدت أن الله قد فرج كربتى.

حطت الطائرة فى المطار، أخذونى معهم إلى حانة كبيرة فى مدينة روما، دلفنا إليها وجلسنا فى طاولة فاخرة، رميت بصرى فى أرجاء الحانة، تراءت لى غرفة صغيرة فى ركن قصى تصعب رؤيتها للعموم إلا إذا كنت دقيق النظر والملاحظة، داخلها شاب تزينه فتاة، ألبسته فستانًا أسود، وتضع على وجهه خمار رقص مصرى، ترفعه أعلى لتعدله، وقفت مصدومًا وملامحى مشلولة، لقد كان صديقى محسن، أخذت الأسئلة تنهشنى، دهشت مما رأيته، قاطع النادل غيابى المؤقت، وأعادنى إلى صخب الحياة، حين حدثنى كانت لكنته عربية، عرفت أنه مغربى، قلت متعجبًا:

- أرأيت ذاك الشاب هناك فى الغرفة، إنه صديقى محسن يعمل مع مافيا كبيرة هنا فى روما، إنه غنى جدًا، ولكن مالى أراه يرتدى ذاك الزى النسائى؟

رد علىّ باستهزاء:

- ينتمى لمافيا، صديقك لم يجد عملًا، وقادته الأقدار إلينا، صادف تواجده هنا، سقوط ريجيلا الراقصة وتكسر كاحلها، خوفًا من غضب الرواد، عوض المدير ريجيلا به، منذ ذاك الوقت وبشكل خفى يشتغل معنا رقاصة.

المركز الثانى مكرر فى مسابقة «صلاح هلال» الأدبية ٢٠٢٢