رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحلام بائعة الخوص

مى مختار
مى مختار

فى الطريق المؤدى لمقابر الإمام الشافعى وسوق الجمعة بالسيدة عائشة، تفترش الزهور وجريد النخيل فوق قفص خشبى أعلى الرصيف الملاصق لسور مجرى العيون يومى الخميس والجمعة أسبوعيًا، بخلاف المواسم والأعياد، زهورها ذابلة وتحمى رأسها بقطعة من ورق الكرتون لشدة حرارة الشمس، تبيع زهورها مقابل قروش قليلة تعينها هى وحفيدتها على ضروريات الحياة.. بائعة الخوص امرأة تخطت الأربعين، استوقفتنى تفاصيلها بعينى طفلة صغيرة فى السابعة وأنا برفقة أسرتى فى طريقنا لزيارة أحبائنا هناك، رسمت شخصيتها فى ذاكرتى، وبفضول الطفلة وقفت عند الكثير من الأسئلة التى لم يجبنى عنها أحد، لماذا نشترى الورد والخوص أثناء زياراتنا الموتى؟، وهل ستعيد الزهور أحباءنا للحياة من جديد؟، ولماذا غالبية من يفترشون الأرصفة بأقفاص الخوص من النساء؟، وما سر الابتسامة على وجه المرأة العجوز رغم قسوة المكان الذى تعيش فيه؟

مر أحدهم أمامنا وألقى عليها التحية، قائلًا: «العواف يا ناصرة».. ناصرة امرأة سكنت التجاعيد وجهها، نحيلة الجسد، شاحبة الوجه، يداها خشنتان وجافتان ومشققتان، تلتف بطرحة سوداء مرقعة ومتربة، خلف القفص الخشبى تقوم برص باقات الورد والخوص وبجوارها صفيحة من الماء صدئة، أقبلت علينا طفلة صغيرة فى مثل عمرى، وربما أصغر قليلًا باتجاه ناصرة، قائلة: «عاوزة أكل يا ستى».

أحلام، اسمها أحلام حفيدة ناصرة، ملامح طفولية بريئة تختفى خلف ملابس رثة وقدمين حافيتين وشعر غير مهذب، طفلة لم تقترب من عالم الطفولة بعد، شىء ما جذبنى لأحلام؛ لا تحمل كتابًا أو حتى عروسًا تلهو بها شأنها شأن الأطفال فى مثل عمرها، ما زلت أتذكر الدماء التى كانت تسيل من كفيها عند جمع الزهور وجريد النخيل لصنع باقات الخوص مع جدتها، تساءلت: لماذا تتحمل أحلام كل هذه الآلام؟ ولماذا لم تلتحق بالمدرسة لتحمى نفسها من أشواك الورد؟، وكيف تعيش هنا بين الأموات داخل المقابر؟، وهل تعلم أحلام أن هناك حياة أخرى بعيدًا عن جدران المقابر التى يعيشها الأحياء مثلها؟.

كنت أحمل عروسًا من القماش حاكتها لى جدتى، زاغت نظرات أحلام نحو العروس وكأنه اللقاء الأول بين عالمها وعالم العرائس، وبكل الود ناولتها إياها، وابتسمت هى وحملت العروس فى سعادة، وسارعت بسؤالها: «نفسك تطلعى إيه لما تكبرى؟»، قالت: «يعنى إيه؟»، قلت: «نفسك تطلعى دكتورة ولا مهندسة؟»، قالت: «أنا نفسى آجى معاكى»، لا أدرى هل كانت رغبة للهروب من عالم الأموات إلى عالم الأحياء، أم أن ابتسامتى الودودة لها طمأنتها نحوى فأرادت مرافقتى؟، الحق أننى لم أجد تفسيرًا واضحًا وقتها لرغبتها فى المجىء، وبعد أن كبرت استطعت تفسير جملة من أربع كلمات من أقسى المعانى فى قاموس اللغة.

لم ألتق أحلام منذ كان عمرى سبعة، ولكننى أراها من وقت لآخر فى وجه كل طفلة تجلس هناك بجوار أمها أو جدتها بجوار سور مجرى العيون أثناء مرورى هناك، وأستعيد مشاهد من الذاكرة لأحلام وأبتئس لمثيلاتها من الفتيات الصغيرات اللاتى ينتظرن الرزق والموت معًا خلف قفص خشبى، الرزق من بيع حزمة أو حزمتين من الخوص والورد، والموت هناك خلف المقابر بين الأموات، لن أنسى أمنيتها الأخيرة عند آخر لقاء بيننا وعمرى سبعة «أنا نفسى آجى معاكى».

تُرى أين أنت اليوم يا أحلام؟، وهل تحقق حلمك فى الهروب من خلف جدران السور ووحشة المقابر؟