رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حجرة ثالثة داخل الـقلب

يولد القلب وبه حجرتان، واحدة للأمل، والثانية لأشواق الحياة وأفراحها، ثم يظهر الحزن، يطرق باب القلب ويدخل، ويشرع ببطء وإصرار فى بناء حجرة أخرى ثالثة، بالألم يشيّد منها جدارًا، وبالدموع يشيّد الجدار الثانى، إلى أن يكتمل بناؤها بنافذة واحدة مفتوحة على حديقة ذكريات تهتز مشاعرها فى صمت وسكون. 

كان أبى أول من سكن تلك الحجرة، ببدنه الضخم، وصوته الجهورى، وعينيه الضاحكتين، مع أنه كان يقول لنا قبل موته بسنوات: «إذا مت ووجدتكم تحزنون وتبكون فسوف أنهض من نعشى وألعنكم. استمتعوا بالحياة، ولا تحزنوا، الحياة مبهجة وجميلة عيشوا أفراحها بكل قوة». ثم توفيت أمى، فأفسح الحزن لها مكانًا بجوار والدى، وأفّرد لها سريرًا ووضع بجواره مقعدًا ومنضدة صغيرة. ثم فارقنا أخى عبدالملك أحب أخوتى إلىّ، وصديق مغامرات الطفولة الساذجة، فدخل الحزن مجددًا إلى القلب، وأعاد ترتيب الحجرة لتتسع للجميع، وحين ألقيت نظرة عليهم وجدتهم يتبادلون الحديث بحيوية ونشاط ويلوحون بأياديهم يؤكدون شيئًا أو آخر. وبمرور الوقت دخل إلى حجرة الأحزان صديقى وأخى أبوبكر يوسف، وأعقبه آخرون، واحدًا بعد الآخر، حتى أصبح الذين داخل الحزن أكبر من عدد الذين خارجه، وتقلصت مساحة الأمل، ومساحة الشوق إلى الحياة، وصرت كثير التردد على الحجرة الثالثة أقضى فيها أوقاتًا طويلة، وأجدها يومًا بعد يوم وقد اتسعت، وارتفعت جدرانها، وصارت رائحة الذكريات فيها أقوى. ومؤخرًا توفى أخى فتحى، وكان عندى أقرب إلى منزلة الابن، إذ كنا نذهب للمدرسة الابتدائية، فأتجه فى الفسحة بين الحصص إلى الفصل الذى يدرس به، أسأل عنه لأطمئن إلى أن أحدًا لم يضربه، وقد بدأ اهتمامه الغريزى بالموسيقى مبكرًا، حتى إنه كان وهو فى سن السادسة يحبس نفسه فى صوان صغير ويغلق الباب عليه ويصيح: هنا القاهرة. تسمعون الآن عبدالحليم حافظ. ويبدأ فى الغناء، لنفسه، ثم تجلى ذلك الاهتمام عن موهبة فلحن العديد من الأغنيات، وكتب سيمفونية تسمى غضب النيل، وقمنا معًا بوضع عدد من الأوبريتات التى لم تشهد النور، منها «أحمد عرابى»، ومسرحية «الجبل»، وغيرهما. وانشغل فترة بنشر الوعى الموسيقى فى صالون ثقافى قام بتأسيسه، ثم فارقنا، اختفى فى لحظة، ودخل ليقيم فى حجرة الأحزان، مع والدى وأصدقائى وجدتى خديجة وخالى عبدالرازق، لكنى أراه لا يكف هناك عن شرح أهمية مسرح سيد درويش، وضرورة تطوير الأغنية الجماعية، والدور الرائد لمحمد عبدالوهاب، أراه يواصل الحياة فى تلك الحجرة، حيث يزداد عطر الذكريات كثافة، ويتقطر الزمن، ويبدو الماضى كأنه الحاضر، ويلوح المستقبل تكرارًا للنغمة نفسها، بكل ما فيها من فرح وأسى.