رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مبنى الإرشاد»

صفية الفرجاني
صفية الفرجاني

يطل مبنى الإرشاد على مدينتى كضحكة لوردة بيضاء تنشر عبيرها فى سماء وأرض حدائق الملاحة. وردة بيضاء، ولها أشواك صخرية. 

فى كل صباح يتأمله الباحثون عن عمل كمنارة يهتدون بها بعد ظلمة ليالى المذاكرة والتعب، والبحث عن وظيفة.

كان أحمد إبراهيم يتمنى أن يعمل داخل مبنى الإرشاد، ويحلم كل مساء بأنه طائر نورس يطير ويحلق، ليبنى عشه فوق شرفات المبنى الأبيض الشاهق متعدد الطوابق، للمبنى عيون مفتوحة تنظر فى كل الاتجاهات من خلال طوابقه الثلاثة عشر، عيون تنبعث منها إرشادات للسفن العابرة، عيون لا تغلق أحداقها أبدًا، تحدق دائمًا فوق مدينتى، وتتحدى الوصول إليها.

وعندما يأخذه التعب كان يريح جسده على الحشائش الخضراء التى تحتضن مياه بحيرة التمساح النائمة كزهرة لوتس زرقاء، والتى نبت على حافتها منذ سنوات بعيدة ساق بيضاء كبيرة ممتدة أضحى يطلق عليها مبنى الإرشاد. 

العمل فى «الكبانية» كان حلم أجداده، كثيرًا ما سمع من والده وكل المحيطين به، أن يكون لك عمل فى الهيئة يعنى أن قد تكون دخلت الجنة.

انتظر إعلانات الوظائف بشوق، كما ينتظر البدوى فى الصحراء اكتمال البدر ليهتدى به، يسارع هو وزملاؤه فى التقدم للمسابقات التى تعلنها هيئة قناة السويس، مثلما تتسابق الذكور فى خلية النحل على ملاحقة الملكة والقرب منها، لا يتعبون ولا يملون.

الكل كان يحتفظ بملف يشمل جميع شهاداتهم الدراسية، وشهادات الخبرة وبعض كروت التوصيات والمحسوبية ممن أنعم الله عليهم، ويعملون حاليًا فى الهيئة فقط، يتبقى لهم عمل «الفيش والتشبيه». 

كل من له قريب يعمل فى الهيئة، ويساعده، يشعر بنشوة الانتصار على الآخرين، كالغريب العائد إلى وطنه بعد طول غربة ويجد الأحبة.

عشرات بل مئات وألوف الألوف ممن يتقدمون للوظيفة الواحدة، التى لها شروط كثيرة ليس من بينها المؤهل الدراسى، بالحصول على الدكتوراه قد تكون الوظيفة المتاحة لك أن تعمل كحارس على بوابة الجنة فى مبنى الإرشاد.

وفى المساء، تسحب الشمس أشعتها المتلألئة من فوق مبنى الإرشاد، حزينة تمسح دموع أحمد إبراهيم، وتغطس فى المياه المالحة.

يترك أحمد إبراهيم الشمس، ويسير بمفرده يراقب طيور النورس ويتأملها، كانت تخطف أسماكًا تخرج من الماء لتموت بعد استنشاق قليل من نسمات المساء العليل.

يجلس بجوار الكوبرى الخشبى العتيق أمام المبنى الأبيض الشاهق الذى يعب كل هواء المدينة فى صدره، ثم يخرجه زفيرًا على وجهها الدامى، وفى الأعالى يظهر القمر قرص خبز أصفر مخنوقا يتخفى خلف أشجار الملاحة العالية العتيقة.

يحاول أن يقترب من البوابة الحديدية ذات الأسوار المرتفعة كقلعة محصنة ضد أعداء لا يراهم أحد سوى حراس المبنى الذين يحولون دون دخول أحد.

يقابله حارس البوابة الأمامية الواقف أبدًا مع اثنين آخرين أو أكثر من الحراس، وقبل أن يلقوا عليه أى سؤال عن سبب وجوده هنا بجوار المبنى فى هذا المساء.

كان يردد الإجابة التى اعتادها: جئت أتابع إعلان نتائج مسابقة التعيين.

فيرد الحارس العجوز بعد أن يبتسم بتعالٍ: احضر فى الصباح الباكر يا ابنى. 

- سوف أنتظر هنا حتى يظهر هذا الصباح الباكر.

- ممنوع الاقتراب من البوابات فى المساء، وفى أى وقت كاميرات المراقبة سوف تظهر وجودك علامة خطر ويقبض عليك وهذه مسئولية علينا.

- قريبًا سوف أكون هنا وأعمل معكم. 

ينظر له حارس البوابة العجوز بإشفاق ويتركه. 

يفترش أحمد إبراهيم النجيلة الخضراء البعيدة فى جناين الملاحة، ويتأمل جذوع أشجار الكازورينا العالية، التى تحمل على فروعها علامات تعجب سوداء تشرعها فى وجهه المدينة المتعب.

وعلى أصوات نقيق الضفادع الرتيبة بجوار ترعة المياه الحلوة يأخذه النوم فينام. 

توقظه قطرات الندى المبهجة التى تحيط به فى كل مكان، يفيق على أضغاث أحلامه وعلى أصوات هادرة متدفقة من الشباب الذين يخرجون سراعًا، جموع كثيرة من حوله. ينتفض بعد أن يأتيه صوتها كهدير مياه متدفقة لا تهدأ، فيعلم أنه تأخر كثيرًا عن الوقوف فى الصفوف الأولى لـ"بوابة المبنى الأبيض" الشاهق، وعرف من المحيطين به أن نتيجة الإعلانات بالأسماء المقبولين قد وضعت ومزقت أكثر من مرة من الغاضبين الذين أجهض حلمهم مبكرًا. 

فاقترب أحمد إبراهيم وتابع ما سقط من أوراق الإعلان عله يجد اسمه فلما لم يجده اقتحم الزحام بكل قوته، حتى إنه زحف على الأرض تحت الأقدام ليقترب من مكان الإعلانات المعلقة عاليًا.

كأنّ عينيه محراثان عميقان يشقان أرض الإعلان يبحثان عن اسمه.. اسمه.. وعندما لم يجده.. ضرب بيده البحر فانفلق سبعة أبحر. 

سبح فى البحر الأول الذى ارتفعت موجته حتى غطت الحى الغنى بالمدينة، وانحسرت عن باقى الأحياء. وجد فى قاع موجة الحارس الليلى الذى نظر له بتعالٍ ومعه حشود من المهندسين والمرشدين وعمال الكراكات تركهم مصلوبين على بوابات المبنى الشاهق للأبد هم ومن بعدهم أولادهم وأحفاد أحفادهم العاملين معهم كأبناء عاملين.

وشق الغيب البحر الثانى الذى كانت تعبره السفن المسافرة إلى بلاد الله خلق الله يمد يده للآخرين يتمنى أن يحملوه معهم.

عندما اقترب من البحر الثالث وجد لموجاته ألوانًا مبهجة به قلوب تنبض بحروف تحمل علامتين "ق & س" للعاملين بالهيئة فقط، كان المد والجزر قد أزاحه على شاطئ بعيدًا فى آخر بلاد الله خلق الله وتسربت مياه هذا البحر من بين يديه وحرمت عليه للأبد.

وهو واقف ينتظر على آخر الأفق اقتحمته مياه البحر الرابع، وجد نفسه يغرق ويطفو ولا يجد من يُنقذه، تحوطه المياه المالحة بالعرق والدموع من كل جانب، يشعر بها ولا يراها، كثير كانوا معه مثله يسبحون فى مرارة ملحه، يلعقون جراحهم علها تطيب يومًا.

ونظر إلى الضياء المتسلل من المساحة الضيقة خلف مبنى الإرشاد، انشق عندها البحرالخامس عن ممشى فى عمق القناة لم يكن له وجود من قبل وجد جنودًا يحملون أسلحتهم ويعبرون إلى الضفة الشرقية، كان بينهم والده يبتسم له من بعيد، ويشير إليه أن ينتظر دوره فى حمل المسئولية. 

حال بينهم أشجار البونستياتا التى نمت فجأة، وأزهرت وردها الحمراء التى تساقطت ساكنة لتصبغ مياه القناة باللون القرمزى حتى يتغذى عليها سمك لا يكبر أبدًا.

ثم سحبته دوامات من رياح الخماسين فى حركات دائرية حتى ولج البحرالسادس، على وجهه الماء عيون براقة وشعور سوداء مسدلة على أكتاف جنيات بحيرة التمساح اللائى كن يجلسن باسترخاء وسط المياه وعلى الشاطئ وبأصوات هامسة راجية يسمعها بين اليقظة والنوم يدعونه من كل جهات شتى شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا يدعونه تعااااااالى ننتظرك يااحمممممد إبراهييييييم.

وقبل أن يفيق من نداء الجنيات الجميلات كان حراس المبنى الشاهق يحيطونه من كل جانب، هو وكل الجموع الذين مزقوا الإعلانات، ومنعوا أن تغمر الفرحة قلوب الفائزين من أبناء العامين، سمع بعدها شهقات لدموع الجنيات اللاتى اختفين جميعهن مرة واحدة.

وبعدها غمرته مياه البحر السابع الواسع من بين يديه، ومن خلف، واحتوته هو ومياه البحور السابقة التى انفتحت على بحر متحرك متلاطم من الشباب والرجال والنساء والأطفال سقطوا فى بحر آخر من خيبات الأمل جرفته بعيدًا حتى عمق بحيرة التمساح وكان كلما تحركت موجة لتقترب من الشاطئ تلحقها موجات وموجات هادرة وسريعة لا تأتى من جهة واحدة ولكن من جهات متعددة الزحف كان متواصل... متواصل... والأمواج عميقة وسريعة هادرة تصم أذنيه عن كل ما حوله لا يملك إلا أن يستجيب لها ومع اقتراب موجات البشر إلى أقصى مداها العميق والعنيف وجد نفسه فى عمق بحيرة التمساح المالحة سمكة كبيرة تغوص وتغوص وتتوارى فى الأعماق وعندما يحل المساء يتحول طائر نورس يحلق ويحلق على شرفات المبنى الأبيض الشاهق وينفذ الى داخله يرنو على المكاتب عله يجد مكتبًا خاليا يحط عليه ولو برهة من الزمن.