رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصراع حول النظام المالى العالمى

اجتمع الكثير من الدول عام ١٩٤٤ للموافقة على سعر صرف ثابت يكون مرتبطًا بالذهب إلى حد كبير من خلال الدولار الأمريكى، وكانت العملة مرتبطة بالذهب كمعدن نفيس قبل هذا العام، لكنها لم تكن مرنة، ولم تساعد على تجاوز الأزمة الاقتصادية التى حدثت فى نهاية العشرينيات من القرن الماضى.

مما جعل الدول الصناعية الكبرى تقرر الاستعاضة عنه بنظام جديد سمى بنظام «بريتون وودز»، مبنى على أساس تحديد سعر لكل عملة، مقابل كل من الدولار والذهب معًا، ذلك الأمر ساهم فى استقرار العملات والحفاظ عليها لثلاثة عقود تقريبًا.

وبعد ما يقرب من ٢٧ عامًا، وتحديدًا فى عام ١٩٧١ أنهت الولايات المتحدة قابلية تحويل الدولار الأمريكى للذهب، وأصبح الدولار عملة إلزامية، وتمت الموافقة أيضًا على السماح بتحركات لأسعار الصرف فى حدود ٢.٢٥٪ من قيمة الدولار، وعلى الرغم من أن هذه التغيرات تبدو محاولة لمعالجة بعض النواقص، التى كانت اتفاقية «بريتون وودز» فى حاجة إليها، لكن لم يتحقق استقرار أسعار الصرف، ومن هنا بدأ الاتجاه نحو تعويم صرف العملات، الذى يعنى التعامل مع العملات باعتبارها سلعة تخضع للعرض والطلب فى السوق العالمية.

ويمكن القول فى هذا السياق، إن النظام المالى العالمى بعد عام ١٩٧١ اضطر الدول تباعًا إلى ربط عملتها بالدولار الأمريكى بشكل مباشر، حتى يتسنى لها القيام بعمليات التبادل التجارى، وبعد حدوث الأزمة الآسيوية فى تسعينيات القرن الماضى، تراجعت الثقة لدى الدول فى آليات التبادل التجارى، وهو ما ترتب عليه أن بعض هذه الدول وعلى رأسها الصين، قام بتخفيض عملته بالنسبة للدولار.

وقامت الصين بشراء أكثر من تريليون دولار، وهو ما ساعد على ارتفاع سعر الدولار فظل محتفظًا بقوته، وفى المقابل ضعف اليوان بشكل أو بآخر، وكان هذا يعنى دخول الاقتصاد العالمى فيما سمى بحرب العملات التى تنتج عنها نتائج سلبية لبعض العملات على حساب العملات الأخرى، ومن المهم أن ننتبه إلى أن الحرب المشتعلة على جبهة الاقتصاد لا ترجع إلى وجود الاختلافات الاقتصادية فقط، بل تسهم فى ذلك رغبة الدول الكبرى فى الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية، وسعى كل طرف لهزيمة الآخر.

لا تزال جائحة كورونا، والصراعات السياسية والاقتصادية، والحرب الروسية على أوكرانيا، تشكل ضغطًا على العملات الكبرى والصغرى معًا وتعرضها للتقلبات، فالعملات تعانى من ارتفاع الأسعار، سواء فى مجال الطاقة أو الأمن الغذائى لملايين البشر، وهذه الارتفاعات كان لها الأثر على عملات دول الشرق الأوسط وآسيا وحتى أوروبا، أما الدولار فقد حقق مكاسب لم يحققها منذ عامين تقريبًا، ويتضح من أنه بمجرد إعلان البنك الفيدرالى الأمريكى عن رفع معدلات سعر الفائدة أخيرًا بمقدار نصف نقطة، حدث تحسن فى أداء البورصة الأمريكية بعد أن توقع المستثمرون أن الفيدرالى فى طريقه لمزيد من الارتفاعات لكبح التضخم، وهذا يعنى استمرار الدولار فى اكتساب القوة، كما أن الدولار تمكن من استيعاب ارتفاعات الأسعار والتعامل معها، على عكس اليورو واليوان الصينى، إذ تراجع اليوان الصينى إلى أدنى مستوى له فى عامين، ثم بدأ فى التحسن بعد قيام الصين بالإفراج عن جزء من الاحتياطى الأجنبى لدى بنوكها، ولكن سرعان ما تراجع اليوان مقابل الدولار مرة أخرى.

اليوان من أكثر العملات التى تضررت فى الفترة الأخيرة، وبالرغم من أن الصين فى المقام الأول يعنيها الاقتصاد مبتعدة عن الدخول فى معارك سياسية، لكن ما حدث أخيرًا من صراعات سياسية، انعكس مباشرة على الصين، فالصين ترتبط بروسيا بحجم تبادلات تجارية كبيرة، ومن ثّم العقوبات التى فرضت على روسيا كان لها تأثير كبير على اليوان واليورو، فضلًا عن أن الصين تحتاج النفط فى العمليات الصناعية، والذى شهد هو الآخر ارتفاعًا كبيرًا. يتحدث الكثيرون عن أن الروبل سيحقق مزيدًا من الارتفاع والقوة فى مواجهة الدولار، وهو قول يستند إلى احتياج الغاز والنفط الروسيين وبعد قرار روسيا باستخدام الروبل واضطرار دول أوروبا إلى التعامل به لتسديد عقود الغاز والنفط اللذين لا غنى لأوروبا عنهما. هل يعنى هذا أن الروبل عملة عالمية منافسة للدولار؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة، وفى تقديرى أن ارتفاع الروبل سيكون ارتفاعًا مؤقتًا.

هناك أيضًا حديث عن تحالف روسيا والصين ودول البريكس بوجه عام يعمل على إقامة نظام مالى جديد، يتراجع فيه الدولار عن مكانته التى احتلها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لا يمكن نفى التغيرات والتوازنات السياسية والاقتصادية الجديدة الناتجة عن الصراع بين المعسكرين، ولكن السؤال يظل هل تصل هذه التغيرات إلى حد انتهاء هيمنة الدولار، هناك شك كبير فى إمكانية حدوث ذلك، فالكثير من الدول التى لا تستخدم الدولار بما فيها الصين، عليها إما أن تدعم عملتها أو تدعم أسواق السندات، ولا يمكن أن تدعم الاثنين معًا، وفى الوقت الحالى دعم سوق المال هو الأهم. ذلك يعنى أن قيمة العملات فى هذه الدول ستتراجع أمام الدولار على الأقل على المديين القصير والمتوسط، وربما بعد ذلك تشهد هذه العملات تحولات وتغيرات ولكن لا أحد يمكن أن يتوقع ما شكل هذا التغير فى ظل عالم سريع التحول.