رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انحراف أممى جديد

تعليق عضوية هذه الدولة، أو تلك، فى «مجلس حقوق الإنسان»، التابع للأمم المتحدة، لن يقدم أو يؤخر، ولن يضر أو ينفع، ولا يسمن ولا يغنى من جوع، ولا نراه غير خطوة رمزية تكشف عن انحراف أممى، وتزيد من اهتزاز، أو تآكل، مصداقية المنظمة الدولية. وعليه، لم تكن هناك وجاهة لطرح مشروع قرار تعليق عضوية روسيا فى ذلك المجلس، كما لم تكن مصر فى حاجة، لكى تنفى وجود هذه الوجاهة، إلى كل ما عرضته من دفوع واعتبارات، خلال جلسة التصويت على مشروع القرار. 

لم تنظر مصر إلى مشروع القرار باعتباره متصلًا بالأزمة الأوكرانية، أو بمبدأ عدم جواز اللجوء إلى القوة المسلحة أو المساس بسيادة الدول، وإنما باعتباره مرتبطًا بالتوجه نحو تسييس أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة. وهو التوجه الذى ترفضه مصر بشكل مبدئى، لما ينطوى عليه من إهدار للغرض الذى أنشئت من أجله المنظمة ووكالاتها وأجهزتها، وما يقود إليه ذلك من دحض لمصداقيتها وللعمل الدولى متعدد الأطراف. والإشارة هنا قد تكون مهمة إلى أن الموقف نفسه تبنته جامعة الدول العربية، فى ٩ مارس الماضى، وأكدت تمسكها بعدم تسييس عمل المنظمات الدولية والمتخصصـة ذات الطابع الفنى فى مختلف المجالات.

فى الكلمة، التى ألقاها مندوبنا الدائم لدى المنظمة الدولية، خلال جلسة التصويت، أعربت مصر عن عدم الارتياح البالغ إزاء استمرار المعايير المزدوجة والكيل بأكثر من مكيال، مشيرة إلى أنه تم الاكتفاء، مرات عديدة، بقرارات أقل حسمًا وأكثر تساهلًا إزاء انتهاكات لحقوق الإنسان واضحة فى ماض ليس بالبعيد. 

بالفعل هناك انتهاكات كثيرة فجة وثابتة ولا يمكن تبريرها، ولم يحدث أن تم تعليق عضوية دولة فى تاريخ ذلك المجلس، باستثناء ليبيا سنة ٢٠١١، التى كانت هى الضحية، بينما لم يقترب المجلس من الجناة، أو الدول الأعضاء فى حلف شمالى الأطلسى. ومع ذلك، قالت مصر، فى بيانها، إن «احترام المنظمة لميثاقها وقواعدها وإجراءاتها ونظام عملها قد عزز من اعتماد المجتمع الدولى عليها من أجل ترسيخ منظومة العمل الدولى». فى حين يقول الواقع إن ممارسات غالبية هيئات ومجالس الأمم المتحدة فقدت مصداقيتها، أو جزءًا كبيرًا منها، منذ سنوات. وكثيرًا ما أكد مجلس حقوق الإنسان، تحديدًا، أن الدول المسيطرة عليه لا تحترم مدونة السلوك، التى ينبغى أن تحكم أساليب عمله، وتقوم بتحويله إلى سلاح يخدم أجنداتها السياسية، كلما اقتضت الحاجة. 

الواقع يقول، بكل أسف، إننا أمام «منظمة منافقة». ونقول «بكل أسف»، لأن الوصف أطلقته الخارجية الأمريكية على المجلس فى ١٩ يونيو ٢٠١٨، وهى تعلن انسحاب بلادها منه. مع باقة أو حزمة منتقاة من الاتهامات والشتائم من بينها أنه مستنقع للتحيزات السياسية، يتسم بالحمق، لا يخدم إلا مصالحه الخاصة، حوّل حقوق الإنسان إلى مادة للسخرية، و... و... ولديه انحياز مرضى «بفتح الميم والراء» ضد إسرائيل! 

تأسس مجلس حقوق الإنسان، فى ١٥ مارس ٢٠٠٦، بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليحل محل لجنة كانت تقوم، أو لا تقوم، بالدور نفسه، وتعرضت لانتقادات حادة، لأنها سمحت بعضوية دول ذات سجلات حقوقية سيئة. وبعد أن كانت اللجنة الملغاة تضم ٥٣ دولة، يختارها المجلس الاقتصادى والاجتماعى، التابع للمنظمة الدولية، صار المجلس الجديد يضم ٤٧ فقط، تنتخبها الجمعية العامة بالاقتراع السرى المباشر، لمدة ثلاث سنوات، يجوز تمديدها، مرة واحدة فقط، على التوالى. ولأن المجلس، يعمل بشكل وثيق مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان، ومع منظمات عديدة، تحت مستوى الشبهات، فإنه لا يتخيّر عنها.

كان السبب المباشر لهجوم الإدارة الأمريكية السابقة على ذلك المجلس، ثم انسحابها منه، هو تأييده، فى مايو ٢٠١٨، قرار فتح تحقيق بشأن الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، واستخدام القوة المفرطة ضد الفلسطينيين. وحين قررت الإدارة الحالية العودة، اشترطت على المجلس التوقف عما وصفته بالتركيز غير المتناسب على إسرائيل، وإصلاح جدول أعماله وعضويته، وطرحت تصورًا للحريات الأساسية التى ينبغى التركيز عليها: حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع وحرية الدين أو المعتقد، إضافة إلى تعزيز الحقوق الأساسية للنساء والفتيات، وأفراد مجتمع الميم «الشواذ جنسيًا» والمجتمعات المهمشة الأخرى.

.. وأخيرًا، لو تشككت فى وجود هذا التصور أو تلك الشروط، يمكنك الرجوع إلى البيان الذى أصدرته الخارجية الأمريكية، فى ٨ فبراير ٢٠٢١. أما لو اعتقدت أن مجلس حقوق الإنسان يستمتع بقدر من الاستقلالية، فعليك العودة إلى جلسته العادية رقم ٤٦ التى عقدها فى ٢٢ فبراير ٢٠٢١، وانضم فيها بشكل علنى إلى باقى الهيئات والمنظمات، الأدوات أو الأسلحة، التى تستخدمها الولايات المتحدة للضغط على خصومها.