رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من موجبات الإعجاب والإزعاج


كثيراً ما تكون حفلات التأبين نوعاً ثقيلاً من الهم الذى لا يعدله هم آخر، ذلك أن الإنسان يستمع إلى كثير من الأكاذيب متوالية منمقة على نحو يجعله غير قادر على ابتلاعها حتى من باب المجاملة، وربما يزداد العجب حين يجد المرء نفسه يستمع من المتحدثين ثناء على شخص لم يحبوه أبداً، وإنما سعوا إلى الخلاص من وجوده بكل ما يملكون من وسائل، ومن الطريف أن بعض الناس يعيشون الحالة ويبدأون فى الثناء على محاسن غير موجودة.

على حين أن آخرين يؤثرون أن يتحدثوا فى عموميات الموت والحياة والوطنية، وتحفل الحياة التى عشناها بكثير من الأمثلة الدالة على هذا المأزق وفى المقابل فإن فى الحياة المعاصرة بعض الأمثلة القليلة على الخلاص من هذه المواقف الثقيلة لكننى لا أجد نموذجاً لحسن التخلص على نحو ما وجدته فى رثاء الشيخ الباقورى لزميله صلاح سالم الذى توفى عام 1962.

وكان فضيلة الشيخ الباقورى كما هو معروف قد اكتوى من الثورة وتقلباتها ولأنه رجل ذكى فإنه لم يورط نفسه «عندما شارك فى رثاء صلاح سالم» شأن غيره «وعلى رأسهم عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين» فى مدح مواقف صلاح سالم السياسية والوطنية، وإنما خرج من مثل هذا المأزق ويلتقط الخيط بسرعة ليتحدث عن جانب إنسانى فى صلاح سالم فيقول: «لقد رحلت مع صلاح سالم فى فجر الثورة إلى السودان فلم أره إلا رجلاً دقيق الحس جم الأدب، لا يخرج عن هدوئه واتزانه إلا حين يرى بقايا الاستعمار الإنجليزى فى السودان فعند ذلك تثور نفسه، ويتقد الغضب بين جوانبه، ولا يذكر إلا أنه أمام عدو غاضب صلف، لا يستحق إلا الغضب والتأنيب».

«ولم يكن يعدل حبه لبلاده إلا حبه لأولاده، فقد كان حاد العاطفة لا يكاد يفارقه ظل ابنه ولا خيال بناته حتى لقد كان يذكرنى فى إيثاره لبناته وتفكيره الطويل فيهن كثيراً بقول الشاعر القديم:

لقد زاد الحياة إلىَّ حبا ....... بناتى أنهن من الضعاف

أحاذر أن يرين الأقوى بعدى ....... وأن يشرين رنقاً غير صاف

ولقد أذكر أننى أنشدت له ذات ليلة هذين البيتين من الشعر، ورأيت مقدار تأثره بهما وحرصه على حفظهما، ولست أدرى إن كان قد حفظهما أو شغلته عنهما شواغل الأيام.

غير أنى حين انتهى إلى نبأ لحوقه بالرفيق الأعلى، تذكرت ذات الليلة التى أسمعته فيها هذا الشعر فى صورة أولاده، ولم تهجم عليه مرارة الموت إلا من هذا الجانب نفسه.

وعلى هذا النحو خرج الشيخ الباقورى من رثاء مفروض عليه إلى حديث جميل يذكر له وربما يثاب عليه.

أعجبنى فى مصر مؤخراً، مجموعة من الأمور والقضايا الإيجابية، منها اكتمال تشكيل الحكومة أخيراً بعد أكثر من شهر من تولى الرئيس مهمته، وسط التربص القائم والاعتذارات الكثيرة. وأعجبنى أن يتحرك مرسى حركة شخصية فى أرجاء الوطن، وأداء صلاة الجمعة فى المساجد ولقاء الجماهير، للإسهام بذلك فى تعميق القيم الحاكمة بين الحاكم والمحكوم. وأتمنى أن يزور مرسى بعض الكنائس للمشاركة فى احتفالاتهم تشجيعاً لمفهوم المواطنة الكاملة، وإرساءً للمفهوم الواقع بأنه رئيس لكل المصريين. كما أعجبنى قيام الجماعة الإسلامية وحزب البناء والتنمية وبمشاركة فاعلة من الدكتور طارق الزمر والدكتور مظهر شاهين خطيب الثورة بعد صلاة الجمعة يوم 3 أغسطس وغيرهم، بالتظاهر أمام سفارة بورما ضد المجازر وحرب الإبادة التى تقودها تلك الدولة الإرهابية ضد الأقلية المسلمة. وقد يكون ذلك نواة لوقوف مصر كلها ضد الظلم سواء وقع على مسلمين أو غير مسلمين.

كنت قد شاركت فى برنامج مساء أول أغسطس الحالى عن بورما فى التلفاز التركى باللغة العربية، وتمنيت أن يقوم الإعلام المصرى والعربى والإسلامى، وبكل اللغات بحملة ضد دولة بورما، واتخاذ الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها، بما يكفل إيقاف هذه المجازر فى بورما، وغيرها من البلاد التى تكون فيها أقليات مسلمة أو غير مسلمة.

أما فى مصر وبعيداً عن مسلسل قطع الطرق بل والسكك الحديدية ــ امتعاضاً واعتراضاً ــ على استمرار انقطاع الكهرباء والمياه وخصوصاً فى رمضان صيفاً، والهجوم على المستشفيات وحتى الأطباء الذين يعالجون مرضانا وجرحانا، وبعيداً عن استمرار مسلسل جرائم البلطجية، والاشتباك حتى مع رجال الأمن واستخدام المولوتوف وإشعال النيران والسرقات والخطف حتى سرقة الكابلات، واقتحام الملثمين للأسواق وخصوصاً محلات الذهب والصاغة، وخطف بعض الأولاد والنساء، فقد كان كل ذلك مستمراً منذ وقت طويل، بل وزادت حدة هذه الجرائم المروعة بعد الثورة لأسباب يعلمها الجميع.

نحن اليوم، وقد اكتمل تشكيل الوزارة الجديدة برئاسة هشام قنديل، وتم تغيير العدد الأكبر من وزراء حكومة الجنزورى وخصوصاً الداخلية والإعلام والعدل، فقد أصبحت المشكلة الأمنية واستعادة الأمن كأولوية وفق الوعود التى قطعها الرئيس على نفسه، أصبحت هذه المشكلة، من مسئوليات الرئيس الجديد ومن معه من العاملين، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته يجب أن يكون شعاراً لنا جميعاً لبناء الوطن وتحمل المسئولية. والرئيس يعلم هذا المعنى جيداً.

حركة الدكتور مرسى الشخصية حركة جميلة ومبشرة، وخصوصاً زياراته أيام الجمع واللقاءات التى يعقدها بالمساجد أو مع الأهالى، وبالأخص فى محافظات الوجه القبلى، وقد يكون الرئيس نموذجاً بين الحكام فى ذلك، ولكن حركة المجتمع إلى الأمام هى مسئوليته الكبرى ومسئولية العاملين معه، ممن اختارهم أو رضى ببقائهم معه، ولن يغنى أى منهما عن الآخر.

ومروراً باكتمال الحكومة الجديدة التى أدت اليمين أمام الرئيس باحترام وتقدير لا يفسده كثيراً، أن أحد الوزراء الجدد أحنى رأسه كثيراً عند السلام على الرئيس، وهى عادة يجب أن تنتهى تماماً، وهى ليست علامة على الاحترام بقدر ما هى علامة على الانحناء والذلة والعادات التى يجب أن تتوقف، ونحن لا نحتاج إلى وزير يحنى رأسه، بل نود أن يرفع كل وزير رأسه فى كل المواقف والأحوال حتى يرفع الوطن رأسه، وسيفرح الرئيس بذلك السلوك الجديد. الاعتراض على الحكومة الجديدة أمر متوقع وبعضه مقبول وكثير منه لا يصب فى صالح الوطن، ولا يصدر عن إنصاف. على أية حال فإن أخطر ما وقع فى مصر بعد الثورة وقبل إتمام تشكيل الحكومة الجديدة وأصبح عبئاً على الدولة، هو تصاعد أزمة أحداث ما يسمى «فتنة دهشور»، أو فتنة «القميص»، الذى حرقه مكوجى مسيحى لمواطن مسلم.

هذا الحادث البسيط الذى قد يحدث أيضاً من مكوجى مسلم لأحد المواطنين المسيحيين، لم يكن يستدعى اشتعال الفتنة بهذا الشكل الاستقطابى وما حدث من دمار وقتل وجرح، ما كان ذلك ليحدث لو لم يكن أثر الثورة الشعبية فى هذا الإطار قد ضعف أو انتهى. أنهت الثورة أثناء قيامها، هذه الروح الاستقطابية الحادة فى المجتمع، واختلطت فى الثورة دماء المسلمين والمسيحيين دفاعاً عن الوطن ضد الظلم والفساد والديكتاتورية.

هل يكفى العلاج الحالى لهذه المسألة الخطيرة الذى تمثل فى تشكيل لجنة من مجلس الشورى للتوفيق والصلح بين أهالى دهشور، أو متابعة الأحداث من الرئيس مرسى، والتشديد على ضرورة عدم السماح بترويع المواطنين والاعتداء عليهم، ومطالبة مرسى بتطبيق القانون بكل حزم أو عقد جلسة طارئة لبيت العائلة المصرى بقيادة الإمام الأكبر الدكتور الطيب وبحضور بعض المسئولين من الكنيسة وإصدار بيان فى ذلك الأمر الخطير. كل هذا مسكّن أو مرهم جيد ولكنه لا يكفى، ومرسى لا يطلب بل يطلب الشعب منه وعليه التنفيذ.

هل يكفى هذا العلاج المقترح أو المتخذ لإنهاء الصراع المستتر والذى يظهر فى المجتمع أحيانا بين المسلمين والمواطنين المسيحيين؟ هل يكفى ذلك لتحسين العلاقة بين المواطنين؟ أقول للجميع إن الإمام على ــ رضى الله عنه وأرضاه ــ يقول: «الناس إما أخ لك فى الدين أو نظير لك فى الخلق».

إن أهم علاج لهذه المشكلة الطارئة والمستجدة فى مصر، والتى لم نرها ولم نعهدها فى شبابنا، هو العودة إلى الثقافة الأصيلة التى تجمع المواطنين جميعاً. ويشترك فى علاج هذا الأمر المعنيون بمناهج التعليم والتربية وخصوصاً فى المراحل الأولى من التعليم، والعلاج أيضا من مسئولية وزارة الثقافة بما تملك من أدوات تحتاج إلى تفعيل، ويشترك فى العلاج كذلك وزارة الأوقاف والتعليمات التى يجب أن تسود فى المساجد، بل وإبعاد المتشددين عن الخطابة حتى يتم حوارهم بل وعلاجهم، وحتى يقدموا برنامج للمراجعات الفقهية مثل الذى قدمته الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد ففرح به الكثيرون. ويشترك فى العلاج أيضاً الكنائس والمؤسسات الكنسية جميعاً، ويقع الدور الأكبر فى العلاج كذلك على وسائل الإعلام سواء الدولة أو القطاع العام والخاص.

هذه الفتنة وهذا الاستقطاب سرطان يسرى فى الوطن، وينبغى السعى إلى علاجه - فنحن جميعاً المسلمون والمسيحيون- مواطنون منا الصالح ومنا الطالح، منا الوسطيون وبعض المتشددين، والأمر يحتاج إلى علاج عاجل، فليس منا ملائكة أو شياطين، ولا ينبغى أن ننسى أن أطرافاً خارجية تستغل أى فتنة فى مصر والعالم العربى والإسلامى، فتنفخ فيها بل ويجعلون أحياناً ــ كما يقول المثل المصرى ــ: «من الحبة قبة» ضمن تربصهم بالأمة.. والله الموفق