رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نوبة غرق

إسلام الحادى
إسلام الحادى

مستسلم أنا لهذا التيار، يأخذنى معه أينما ذهب، فما أنا سوى كائن خشبى يطفو على سطح الماء، يراقب بعينين ناعستين كل من جاء ليستحم، لا أدرى منذ متى وأنا هنا، حدثنى أبى كما حدثه جدى أننا جميعًا بقايا لمركب غرقت هنا فى نفس المكان منذ زمن بعيد.

تمر الأيام ويتآكل جسدى يصبح لونه بنيًا وتبدأ الشقوق تظهر على سطحى، تداعبنى الأمواج يمينًا ويسارًا، يسعدنى صوت المطر حين ينهمر بشدة وأسمع صوت طقطقته على ظهرى وتساقط أوراق الأشجار وانتشارها على صفحات الماء، وتزعجنى جدًا تلك الدوامة المسعورة التى تريد أن أهبط معها إلى القاع.

فى الأعلى «على الكوبرى» أسمع بوضوح صوت بنت بائعة الترمس وهى تتمايل مع الأغنية الهابطة، والأب يستند بظهره على حافة السور يسعل بشدة ويخرج من أنفه البخار فى عز البرد، أما أم بائعة الترمس فتضع رأسها بين فتحات السور الحديدية، تغط فى سبات عميق تصدر أصواتًا أشبه بسيمفونية غير منتظمة تثير الذعر، تزين بنت بائعة الترمس العربة ببعض الزهور الحمراء، تعيد ترتيبها أمامها بين الحين والآخر، تسكب الماء من القُلّة على الترمس وتستمر فى التقليب من أسفل إلى أعلى، ترتعد من الكلب الأسود الذى لم يتوقف عن النباح عليها، أشاحت له بيدها «إمشى» أكثر من مرة ولم يستجب، وحين استيقظ الأب سبّها بقاموس السباب الموجود على أرض البسيطة وأمسك بحجر صغير وألقاه على الكلب فمضى مسرعًا.

البلدة بأكملها حزنت جدًا على بائع الفول النابت الذى أمسكت به النار، فقفز مسرعًا إلى الماء وهبط بجوارى، ضرب بذراعيه الماء كثيرًا وحاول أن ينجو هو، نجا من أن يحترق ولكنه مع الأسف مات غريقًا. كنت أتمنى أن يمسك بى وأن أحمله إلى الشاطئ ولكن كما كان يقول أبى «أعمار».

بنت بائعة الترمس تسير مع البنات ولكن شتان الفارق بينها وبينهن، أنفها دقيق وشعرها جدائل ذهبية الجسم لون الحليب، والعينان سوداوان بلون الليل، الرجال يمشون خلفها كالمجانين يديرون أعناقهم أينما ذهبت.

تعرف جيدًا أنها محبوبة حين تأتى فى الصباح تتمطى بكسل مثل القطة التى نالت قسطًا كبيرًا من الراحة، تبتسم ابتسامة ماكرة حين يقول أحدهم صباح الخير الآن فقط أشرقت الشمس، تحاول تجاوز الأمر برسم الضيق على وجهها ثم تزفر بشدة وتقول: «يا سِمْ».

ثم كانت تلك الليلة التى لم تنته سمعت صوت ارتطام قوى بالماء كان إلى جانبى جسد آدمى.

ساد الصمت بيننا- صمت- يستطيع أن يحكى حكايتها بوضوح، أنفاسها ترددت لسنوات ثم اليوم تلاشت واختفت، كانت نائمة فمها مفتوحًا، ولعينيها المسبلتين ألف سؤال وسؤال، الوجه أزرق اللون، والبطن منتفخ، يطفو الجسد ويستسلم للأمواج مثلى ينتظر من ينتشله، وبعد أيام سمعت دوى صوت سيارة الشرطة خرج منها الضابط يأمر بانتشال الجثة.

وقف أبوها يدق بكل قوة سياج الكوبرى تطفر من عينيه دمعة حارة تنساب ببطء حتى وصلت لفمه، لعقها وشعر بطعم الملح.

قال له الضابط: هذه ابنتك؟ 

لطم على وجهه حتى كسرت نظارته ودخلت بقايا الزجاج المتناثر داخل عينيه. 

قال الضابط: هذا الشاب الذى يرتدى قميصًا مفتوحًا من أعلى تتأرجح به سلسلة ذهبية اعترف بجريمته وقال: كنت أشترى الترمس فأمسكت يدها فاستسلمت كطفلة فلم يبق إلا أن أضمها نحوى، وحدث ما حدث بيننا وحملت منى، تشاجرت معى فى الشارع وسمعها كل المارة فما كان منى سوى أن أقتلها.

صراخ أم الفتاة شق سكون الليل، جلست على جرف الترعة وأخذت تهيل على رأسها التراب وقالت: البنت عبيطة يا حضرت الضابط لا تدرك ما تفعله وهذا الشاب ضحك عليها وفعل فعلته وقتلها.

ساعتها ارتجف جسدى وازداد توترًا وازدادت حركتى لأعلى ولأسفل، وكنت مستكينًا أنتظر مرور تلك الليلة الكئيبة، البيوت متلاصقة وخفيضة، النوافذ عيون بلهاء دامعة، أجساد نائمة منتفخة البطن تعلو وتهبط ولا نسمع تنفسها.

كانت هنا بنت بائعة الترمس تضع الأخضر والأحمر، لم تتمايل مع الأغنية الهابطة والأب لم يستند بظهره على سور الترعة ولم يسعل بشدة ولم يخرج من أنفه البخار فى عز البرد، لم تكن هناك مجموعة من الورود الحمراء تزين العربة، لم يكن إلا لوحة الصبر مفتاح الفرج.

فى عز الليل مرت سيارة فارهة فصدمت العربة وبنت بائعة الترمس غاصت وشهقت وامتلأت رئتاها بماء الحشرجة، حرف الغين يتطاير مع البزاق وغرغرة الماء تخرج فى استجداء واضح المعالم، فى تلك اللحظة كانت مخالب ماء الترعة تنغرس فى كل عرق حتى يخرج منها آخر حرف غين ممطوط متطاير من فمها المرتعش.

حين طلع النهار الأبيض كان كل شىء داخل الماء قد غاص فى الأسفل إلا لوحة الصبر مفتاح الفرج، كانت تهتز وبشدة وتتأرجح بجانبى وكانت كلمة الصبر تظهر بوضوح ولا تزال تهتز. خفت بعدها بشدة أن أهبط مثل كل شىء إلى القاع، ولكن حدثت فترة من الجفاف ذهب ماء الترعة لا أعرف إلى أين؟، فلم أهبط إلى القاع ولكن القاع هو الذى صعد إلىّ فى الأعلى.