رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قطار الليل

خالد إسماعيل
خالد إسماعيل

«تغيانة سلام»، قصيرة، طويلة اللسان، تغيظ أمى بأخيها، خالى «مغازى عبدالرسول»، الذى قتل على طريق «طما»، قبالة «جنينة الشيمى»، قتله «الحمّار» صاحب «الركوبة» التى استأجرها، ودفع له «قرش صاغ»، ركب خالى، وجعل «مقطف» السكر والصابون والعنب، بين بطنه و«بطيخة» البردعة.

رجع من «الإسكندرية» فى «قطار الليل»، وفى جيبه «عقد بيع» يحمل توقيع «حبشى مشرقى»، الشيّال بمصلحة السكة الحديد، بيع نهائى، لا رجوع فيه لمساحة «خمسين دراع»، نصيب «حبشى» فى بيت أبيه «مشرقى هرمينا»، والشاهدان على البيع «طانيوس قرياقص»- زوج «راعوث» أخت «حبشى»- و«فهمى جرس»، صاحب دكان بقالة فى «غيط العنب».

الكلام- فى الليل- تسرسب بين خالى «مغازى» و«الحمار الطماوى»:

- الحاج منين فى «عرب بخواج»؟

- من شرق البلد.

- تسمع عن واحد اسمه «فتحى رشوان»؟

- دا يبقى عمى لزم.

فأخرج «الحمّار» مطواة، وجز رأس خالى «مغازى عبدالرسول»، الذى ليس نسيبًا ولا قريبًا ولا من عائلة المذكور «فتحى رشوان»- شيخ البلد وصاحب الأطيان- وخالى المقتول، كان راعى غنم، ولم يكن يدخل على أمى فى «عيد»، أو طارئ مهما كان، ولم يكن يشترى اللحم، ولا الفاكهة، وامرأته «ست الناس بت شفيقة» حافية- طول عمرها- ولها فى «الجزم» رأى: 

- دى جعلوها للحريم الستات، إحنا ناس على باب الله.

«الحمّار الطماوى»- الذى قتل خالى بمطواة حادة، على طريق «طما»، أبوه كان «حرامى»، قبض عليه «فتحى رشوان» فى «حوش بهايمه»، وهو يحل «مربط البقرة»، فأفرغ فى كرشه الطلقتين من بندقيته «أم روحين»، اللى باعها، واشترى «بندقية ألمانى»- خمس طلقات- وقال ناس «عرب بخواج»:

- الحرامى ماليهش ديه.

وقال «الحمّارون»- أهل الحرامى- الذى قتل فى حوش بهايم «فتحى رشوان» قبل عام: 

- أى نعم راجلنا حرامى.. بس «التار» لا بد عنه، وإحنا و«عرب بخواج» والزمن طويل!

«عزمى مغازى عبدالرسول»، كان عمره خمسة عشر عامًا، يوم أن قتل أبوه، وإخوته «موسى» و«عيسى» و«مهدى» يصغرونه بأعوام، وأهل «فتحى رشوان»، شيخ البلد وصاحب الأطيان، قالوا:

- دم المرحوم «مغازى» فى رقاب «الحمّارين».. إحنا قتلنا «الحرامى» راجلهم، وإحنا وهمّه والزمن طويل!

و«تغيانة سلام» لسانها لا يرحم، كانت تطلب من أمى «رطل السمن» و«الجبن» و«العيش القمح»، وأمى تعطيها مرة، وتعتذر لها مرات، فتطوف «تغيانة» غاضبة بالحكاية:

- مغازى عبدالرسول، جاى فرحان من «إسكندرية»، اشترى نايب «النصرانى»، وكان ناوى يشترى باقى البيت من «النصارى» كلهم، عيال «مشرقى هرمينا»، عشان يوسع بيته، وجايب معاه «السكر والعنب والصابون» فى «المقطف»، كان عاطيه ليه «حبشى مشرقى»، وقابله «الحمّار»، وقال له: تعرف «فتحى رشوان»؟ قال له: يبقى عمى، راح «الحمار» قاطع رأسه... هوه «فتحى رشوان» يبقى عم «مغازى عبدالرسول»؟.. ده من عيلة، وده من عيلة، آدى أخرة اللى يتحشر فى الناس، وعاوز يعمل روحه من عيلة وباين فى البلد.. «مغازى» جعان، وطول عمره سارح ورا «النعجة» و«العنزة»، وماتهونش عليه «اللقمة» ولا عمره يشخ على صابع مجروح!

فتذهب إليها- أمى- بالعيش القمح، و«سطل اللبن»، و«رطل السمن» و«نايب اللحم الطايب» فى «التقلية»- يوم الخميس- يوم السوق فى «عرب بخواج»، فترضى عنها وعن خالى المقتول:

- أصيلة وكريمة طول عمرك يا «أم مصطفى»، والله يرحمه «مغازى» أخوكى، كان «سبع»، وما يغلبهوش راجل فى «عرب بخواج»، منهم لله اللى قتلوه ظلم، ليه رب يخلص له حقه.

«عزمى مغازى عبدالرسول» وإخوته سافروا إلى «كفرالزيات»- بحرى مصر- وأقاموا هناك، وأصبحوا أنفارًا فى محالج القطن، و«القهاوى» و«الدكاكين»، هربوا من كلام الناس فى «عرب بخواج»، كلما وقع خلاف بينهم وبين جماعة، عيروهم: 

- عاملين رجالة؟.. روحوا خدوا تار أبوكم من «الطماوى»، اللى دبحه زى «الفروجة» ورماه ع الطريق!

وبيت خالى- المقتول- «مغازى عبدالرسول»، أغلق لعدة سنوات، وأمى كانت تفتحه كل صباح وتكنس أرضه، وترشها بالماء، وتملأ «الأزيار» المنصوبة فيه، بجوار «المصطبة» التى كان خالى ينام عليها، وزوجته «ست الناس» ماتت بعده بعامين، وعياله من «كفرالزيات»، أرسلوا «الجواب» إلى أمى:

- يا عمة، لو عاوزه تشترى البيت، إحنا موافقين نبيعوا لك، ولو مش جاهزة بالفلوس.. سامحينا، هنبيعوا للغريب، عشان إحنا مزنوقين فى الغربة، وقاعدين فى مطرح ضيق، فى بلد أرياف تبع «كفرالزيات»، والعيشة ناشفة ع الكل».

قال أبى، بعد أن تعشينا وشربنا الشاى:

- هات ورقة وقلم، وهات «الطبلية» النضيفة، واكتب «جواب» لعيال خالك «مغازى»...

وكتبت:

- نعرّفك يا أخ «عزمى» إن موضوع بيع بيت المرحوم «مغازى عبدالرسول»، واعر ع النفس، لكن ما باليد حيلة، والعين بصيرة والإيد قصيرة.. بيعوا للى فلوسه حاضرة.

وبعد أسبوع، حضر «عزمى مغازى»، ونزل ضيفًا علينا، وعقب صلاة الجمعة، جاء «رضوان فتحى رشوان»- ابن شيخ البلد صاحب الأطيان- وقال:

- فلوسى حاضرة .. وين العقد؟

وأخرج «عزمى مغازى»- العقد الأخضر- وكتبت فيه:

- «اشترى رضوان فتحى رشوان، بيت مغازى عبدالرسول من عزمى مغازى وإخوته، والبيت مساحته مائة ذراع، مبنى بالطوب الأحمر، المكحول بالطين، وله باب خشبى مفتوح على الشارع العمومى، والحد البحرى ورثة رضوان عبدالرسول، والحد القبلى كمال منصور، والحد الغربى ورثة مشرقى هرمينا».

وعدّ «رضوان» الفلوس، وحطها «عزمى مغازى» فى «المحفظة»، وأعطى «رضوان» العقد، وقال «رضوان»:

- البيت بيتك يا أخ «عزمى»، وبيوتنا كلها تحت أمرك، والملك لصاحب الملك، وعلى رأى اللى قال «يا وارث مين يورثك»!

وركب «عزمى مغازى عبدالرسول»- من محطة «طما»- فى «قطار الليل» وأمى بكت وقالت: 

- النهارده ناسى ماتوا كلهم، واتمسحوا من على وش الدنيا.. يا خسارة!

مدينة ٦ أكتوبر

١٠ ديسمبر ٢٠٢١