رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوباء يأتى خلسة!

السيد نجم
السيد نجم

استيقظت مبكرًا على غير عاداتى، جلست خلف زجاج النافذة أحتسى القهوة، لم أقرأ جريدة الصباح، كل الأخبار عن الوباء أو الجائحة، خبرتها من على شبكة النت ومن التلفاز. 

مذاق القهوة المنعش مع غبشة دخان السيجارة ألبسنى الدفء.. الكاذب. أتمنى لو أبقى هكذا العمر كله، وكان من الممكن أن أبقى، لولا أنهم اقتحمونى بحجة أن صاحبى، قاطن الحجرة العلوية على سطح العمارة.. يحتضر، نال منه الوباء الدار فى الديار بعيدًا عنى!

فلما تأكدوا أننى لم أغضب، ولم أبك، أفاضوا فى وصف لحظات احتضاره: 

(.. شفتاه ترتعشان بما يشى باسمك).. 

عاتبونى لأننى لم أجب مطلبهم، ولا مطلب صاحبى مع أنفاسه الأخيرة!

كنت صادقًا معهم ومع نفسى، عندما أخبرتهم بأننى شغلت بسؤال يطوقنى:

(دعونى هنا.. ودعوه يحتضر وحده هناك؟!)

لم يمهلوا أنفسهم للنظر فى الأمر، كانوا فى عجلة من أمر يشغلهم. فلما انتهوا من تشييع الجثمان بمقابر الصدقة، تقبلوا العزاء، عادوا.

كنت فوق مقعدى الخيزران، خلف النافذة، ما زلت!

قصصت على مسامعهم قصة تعرفى عليه، وكيف أنه صادقنى عنوة طويلًا ها هنا؟ كيف شاء أن يعيش وحده، فور سماعه أخبار الموت الصامت الذى يغزو اليابسة حتى جزر المحيطات.. لم أعترض. لم أكن أعلم أنه أراد أن يموت وحده، ثم بكيت بحرقة، لم تقنعهم نهنهة صدرى ولا دموعى!

سردت على مسامعهم ما كان بيننا من أسرار: كم أكلنا من اللحوم الشائطة، لحومكم.. كم كان بيننا من كذبات، صغيرة أو كبيرة.. كم من منكر عاقرناه سويًا، ولم نتساءل متى الساعة الأخيرة، لم يمهلنا الوقت كى نحتذر.

لم يكن ككل الأصدقاء.. ذا جاه أو شهادة علمية، ولا ضحوكًا فكهًا، ولا باسم الثغر، ولا حتى وقور الطلعة حسن الهندام.

لم يكن كما أى صديق، سديد الرأى، حكيمًا، لم يبد وجهة نظر أبدًا!

لم يكن صديقى هذا يستمع إلى حكاياتى فى دعة وهدوء. يقاطعنى ليتحدث عن ظاهرة كثرة جثث القطط فى الشوارع.. عن مشهد اغتنام القط لفأر، بينما سيارات اﻹسعاف على أهبة الاستعداد، تلتقط الجثث وتلقمها المحرقة والحفرة العميقة. 

لم يكن ذلك الذى رافقنى كظلى يسعفنى وقت الشدائد، دائمًا أخشى أن تصدر عنه فعلة غير متوقعة تثقل كاهلى. كما فعل يوم أن تشاجرت فى الأتوبيس، فنهض السائق ينهى المشاجرة، ليجلس هو خلف عجلة القيادة التى لم يتركها حتى بعد أن ضربه السائق فنزف من منخاريه.

لم يكن توأم أيامى، يشرفنى إذا صحبته إلى منتدى عام.. ينزوى بعيدًا، لا أكثر من عينين بصاصتين فى صمت، حتى إذا ما احتدمت المناقشة وانفلتت الكلمات منى منفعلًا، أجده يقتحم مجلسنا لاعنًا أجدادهم ويأمرنى بالخروج. أنهره وأمسح به الأرض، فيغشى عليه، لتنفلت ثورتهم وثورتى شفقة عليه، وينسون سبابه ولعناته وكل حركاته الفاجرة، لأبقى لفترة طويلة معتذرًا عنه، ثم أسرع العدو محتقن الأذنين.

كان رفيق الصبا والشباب غجريًا فى مأكله ومشربه، وفى عشقه، فأعف تناول طعامى فى حضوره، ولا أدعوه لتناول مشروب فى مكان عام. لكنه عمدًا لا يعفى أذنى من أقاصيص الهوى ومضاجعة العجائز الدردبيس، ومغامراته مع اللاتى يقتنصهن بعينيه فينهرن صرعى تحت قدميه، وما أن يهم بملامستهن بأطرافه حتى ينشق النهر إلى فرعين، وتشيد السدود، وتمتلئ الفراغات بمياه عطرة من ضروع شرايينه.

أعترف الآن بأنه فى أيامه الأخيرة.. كان صموتًا، يغض البصر إذا ما ارتمى ظل أنثى وحف بكلينا، ويتعلق بذراعى القريبة وبعين شمس فى السماء البعيدة.

وأنا ألقى النظرة الأخيرة على جبهته وعلى جسده المفرفر، فوق رصيف الشارع، خلته يفرج جفونه ويرمينى بغمزه غامضة، أهاجت كل ما أعرفه عن خبثه ودهائه.. فأقسم للناس أنه لم يمت! لا أدرى ما حدث من بعد، حتى وجدتنى عائدًا إلى شقتى وحدى وقد أفهمونى أننى ودعته إلى مثواه الأخير. والسؤال يملأ رأسى: كيف سمحوا لنا بالسير فى الطرقات على الرغم من ساعات الحظر المعلنة خوفًا من انتشار (الوباء).

جلست على المقعد الفوتيه، زفرت زفرة طويلة عميقة، أشعلت سيجارة، همهمت لرأسى:

«أشعر الآن أنه كان صديقى الوحيد»

لم أجد سوى عذر واحد؛ لانشغال الجميع عن الجنازة: أن الطقس كان شديد البرودة.. 

الذى أدهشنأ.. أننا فى شهر أغسطس شديد الحرارة.. 

من أين تلبستنى تلك القشعريرة؟!