رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كارت معايدة

منال قابيل
منال قابيل

فى البلد الغريب، البعيد، دقت على باب غرفتى فى المسكن الطلابى. قالت إن اسمها جوانا وإنها المكلفة بتنظيف الغرفة والحمام المرفق بها يوم الأحد من كل أسبوع. سيدة أربعينية، سريعة الحركة تدور عيناها فى كل الاتجاهات فى نفس الوقت، أحاطت بفمها وعينيها خطوط دقيقة متقاربة لا تناسب هيئتها النشطة. شملت الغرفة وما بها بنظرة سريعة مدربة ثم علقت قائلة: «يُفضل أن تلمى هذه الملابس المبعثرة عندما آتى للتنظيف، لن أجد وقتًا لجمعها، وعليك أيضًا أن تضعى الكمبيوتر والمحمول وأى أجهزة أخرى داخل الخزانة، لا أريد أن أتحمل مسئوليتها. شىء آخر من فضلك، عندما تقصين شعرك لا ترمى القصاصات فى المرحاض». تمالكت نفسى لكى لا أبتسم لأنها لم تكن لتفهم ابتسامتى، وقلت: «طبعًا، أوف كورس». ولم أستطع مقارنة جوانا فى مخيلتى بالست أم محمد التى كانت تأتى لمساعدة أمى فى أعمال البيت فى القاهرة. ربما لأن أم محمد كانت ترتدى جلبابًا وتقمط شعرها بمنديل رأس، بينما تلبس جوانا جيب وبلوزة ولا تختلف فى هندامها عن الأخريات فى شوارع البلد الغريب، وربما لأن جوانا تتحدث الإنجليزية كما ينطقها أصحابها، أو لأنها كانت تعرف ما تريده وتحدده وتعبر عنه بوضوح.

اعتدنا أنا وزميلاتى فى الحجرة على جوانا، ولعلها اعتادت علينا بدورها، ثم حلت أعياد الميلاد لأول مرة ونحن فى الغربة، وكنا مجموعة فتيات جئن من بلدان مختلفة ليؤلف ما بيننا بلد الغربة. بثينة من العراق، وريما من فلسطين، ولبنى من باكستان، وأنا من مصر. مع حلول عيد الميلاد خطر لنا أن علينا أن نقدم هدية ما صغيرة إلى جوانا، لكن ما الذى يمكن تقديمه إليها فى حدود مصروفنا البسيط؟. فى الأيام السابقة على العيد كنا قد بدأنا نتلقى بطاقات معايدة من أصدقائنا، فخطر لنا أن نقوم بالمثل مع جوانا. اخترنا بطاقة كبيرة الحجم مرسومًا عليها ورد بألوان مبهجة، وكتبنا على ظهرها بعض الكلمات الرقيقة المحبة، ثم وقعنا بأسمائنا: بثينة، ريما، لبنى، هند، وقمنا بالخطوة الأخيرة حين أرسلنا البطاقة على عنوان جوانا يملؤنا شعور بالسعادة لأننا لم ننس تلك المرأة. انفضت الاحتفالات بالعيد، وانقضت إجازته، بينما الشتاء والصقيع فى ذروته، وكنت أقف عند نافذة حجرتى أتنسم الهواء البارد الصحو، حين لاحظت لأول مرة الجبال البعيدة التى سطع لونها من البياض حين اكتست بالثلوج، وعكست أشعة الشمس الغاربة ذلك البريق على سطح البحيرة القريبة. وقفت وقد استولت علىّ الحيرة إزاء كل ذلك الجمال، لا أدرى ماذا ينبغى علىّ أن أفعل تجاه ذلك المشهد الخلاب. وفجأة انتزعنى من نفسى صوت حركة فى فناء البيت. صوبت بصرى تجاه الصوت فتراءى لى شخص ملتحف بكل ما وقعت عليه يداه من ملابس دافئة وقد غاصت رأسه وذراعاه فى قلب صندوق القمامة ذى الغطاء البرتقالى المخصص للفضلات. كان يقلّب داخل الصندوق ثم سحب ذراعه وأخرجها وقد أمسك بزوج من الأحذية ذى الرقبة الطويلة. تأمل الحذاء، ثم وضعه على الأرض بجانب الصندوق. وعاد من جديد يغوص برأسه وذراعيه فى الصندوق، فأخرج عروسًا لعبة بحجم طفل رضيع. قلّبها بين يديه يمعن فيها النظر، ثم رفعها لأعلى كأنما طفل حى، وراح يهزها ويناغيها. دققت النظر إلى وجه الشخص فإذا به جوانا! نعم. هى جوانا! تجمدت مكانى، وشملنى شعور مؤلم بالحرج، وحاولت أن أسحب رأسى من النافذة الى الداخل ببطء، محاذرة أن أصدر صوتًا. ولبثت واقفة فى الحجرة مبهوتة للحظات. تذكرت بطاقة المعايدة بكلماتها الرقيقة فتملكنى شعور طاغٍ بالخجل. بطاقة معايدة؟ أهذا ما كانت تحتاجه جوانا منا؟. بعد قليل أفقت من شرودى على ألم حاد فى أذنيى اللتين كادتا تتجمدان من هواء النافذة البارد الذى كان يهب علىّ. أغلقت النافذة بيدين متيبستين، ولبثت فى الدفء لحظات أحدق بالفراغ، ثم وقفت ثانية عند النافذة وهى مغلقة أراقب من خلل الزجاج سقوط الثلج على الأشجار، وأمد بصرى إلى الجبال البيضاء التى غطت سطحها الآن قشرة رقيقة من الفضة تنعكس فيها قمم الجبال العالية.