رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر وتونس ورفض الدولة الدينية

انتفضت تونس، ٢٥ يوليو الماضى، ضد الدولة الدينية، وقام الرئيس التونسى قيس سعيد بالإطاحة بالمسئولين السياسيين الذين يخلطون السياسة بالدين. 

وفى مصر منذ ٢٥ يناير ٢٠١١ علا صوت الأصولية الدينية فى مصر، وجرب المصريون، لمدة عام بالتمام والكمال، حكم جماعة الإخوان المسلمين مصر، وثار المصريون ثورة عارمة فى ٣٠ يونيو، ليس ضد الدين- كما يزعم البعض- لكنهم ثاروا ضد الخلط الفاضح للدين بأنظمة الحكم، فالدين مطلق بطبيعته، والسياسة نسبية بطبيعتها، ومن غير المنطقى أن يتم الخلط بين المطلق والنسبى، فهذا الخلط من شأنه أن يتصادم مع المسار الحضارى للإنسانية، ومن ثم يصبح من غير المنطقى إقامة دولة دينية فى القرن الحادى والعشرين، وكان الأجدر بدعاة الأصولية أن يقرأوا التاريخ جيدًا، وأن يتعلموا الدرس من دول أوروبا فى العصور المظلمة، وألا يكرروا نموذج الدولة الدينية فى بلدانهم.

يخطئ من يظن أن الدولة الدينية هى التى ظهرت فقط فى العصور الوسطى فى أوروبا، عندما سيطرت الكنيسة على المناخ العام، فمن حولنا توجد دول الآن نستطيع أن نعتبرها دولًا دينية، وهذه الدول تعرضت للخراب والدمار والتقسيم؛ بسبب الإصرار على فرض الشرائع الدينية، ولعل الصومال والسودان وأفغانستان وإيران أمثلة واضحة لكل ذى عين بصيرة، وقد عرَّف الدكتور جلال أمين الدولة الدينية بأنها «دولة يمارس حكامها الحكم باسم الله، معلنين أنهم يطبقون شريعته ويستلهمون مقاصده، ويلتزمون أوامره ونواهيه»، فالدولة الدينية إذن لا تشترط أن يحكمها رجال الدين مباشرة، فباستثناء دولة الفاتيكان أو الدولة الفاطمية فى مصر، كان حكام كل الدول الدينية يمارسون الحكم باسم الله، والحكم الدينى- أيًا كان الدين- سواء كان فى أوروبا أو غيرها من الدول التى تستند فى حكمها لمرجعيات دينية، لن تجد فى ظله إلا سيادة القهر باسم الله وباسم الدين، وحيث الحكم الدينى تسود العنصرية والاستعلاء على الآخر الدينى المغاير، وفى ظل أى حكم دينى ينتشر التمييز على أساس اللون والدين والجنس، كما يتزايد كبت الحريات وتكميم الأفواه وقمع الأفكار وقصف الأقلام ومصادرة الكتب وقتل الإبداع، وكذلك فى ظل الحكم الدينى كثيرًا ما يحدث تقسيم للدولة الواحدة إلى عدة دول، لأن الاندماج الوطنى لا يمكن أن يحدث فى ظل أى حكم دينى، فأنصار الدولة الدينية يفضلون دولة صغيرة متجانسة دينيًا مع ما يعتقدونه صحيح الدين، عن دولة كبيرة متعددة الأديان والمذاهب، ولعل أخطر ما فى الدولة الدينية أن الحاكم فيها يكون ظل الله فى الأرض، يحكم باسم الله ويصدر التشريعات والقوانين باسم النص المقدس، ويرسم السياسات باسم الله، ومن يطيعه فقد أطاع الله، ومن خالفه فى الرأى أو حاربه فإنما يخالف ويحارب الله، مع أنه مجرد بشر، قد يصيب وقد يخطئ، لكنه فى هذه الحالة تضفى عليه علامات التقديس، ليصبح فى الحقيقة هو الوكيل الوحيد والمتحدث الشرعى دون سواه باسم الله، ومن ثم لا تجوز مراجعته أو مساءلته، وبهذا تفتح هذه الدولة الباب واسعًا للاستبداد باسم الدين، وهو أسوأ أنواع الاستبداد.

وهناك من يخففون من حدة الأمر، فيرفضون الدولة الدينية، ولكنهم يتحدثون عن دولة مدنية بمرجعية دينية، وعبارة الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية تعتبر عبارة مطاطة متناقضة مع بعضها، هذا فضلًا عن أن هذه الدولة تكرس أيضًا للاستبداد والديكتاتورية والقمع باسم الدين، أما الدولة المدنية الوطنية الحديثة ذات المرجعية المدنية، فهى الدولة التى تحترم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

والدولة الدينية قد يحكمها إما رجال دين أو تغلب على دساتيرها وقوانينها النصوص والأفكار الدينية، وهى أمور مطلقة خارج نطاق البشر وفوق عقولهم، بينما المرجعية فى الدولة المدنية الوطنية الحديثة تكون لإرادة الناس ولأفكارهم، وذلك لأن الدولة المدنية تقوم على مبدأ أساسى مقتضاه أن إرادة الناس هى مصدر كل السلطات ومرجعيتها النهائية، الدولة الدينية أو الدولة ذات المرجعية الدينية تستند فى مرجعيتها للمطلق الذى لا يجوز لأحد أن يختلف معه بأى حال من الأحوال، بينما المرجعية فى الدولة المدنية الوطنية الحديثة تكون للنسبى القابل للحوار والنقاش والاختلاف دون تكفير دينى ودون تخوين وطنى، كذلك فإن الدولة المدنية الوطنية الحديثة تقوم على أساس مبدأ المواطنة أى أن مواطنيها جميعًا- مهما اختلفت أصولهم العرقية أو معتقداتهم أو أفكارهم أو دياناتهم- هم لدى القانون سواء فى حقوقهم المدنية والسياسية.

من المؤسف أنه على مدار التاريخ لجأ كثير من الحكام فى التاريخ إلى صبغ حكمهم بصبغة دينية تحت دعاوى الحاكمية لله والعصمة والقداسة، فى حين أن العصمة والقداسة لله وحده فقط، وليس هناك ضمان أن يخرج الحاكم عن جادة الصواب ويضع عنوانًا للاستبداد والإفساد، إن خلط الدين بالسياسة يفسد الدين والسياسة معًا، إذ إن الدين ثابت ومطلق ومقدس ومنزه عن الخطأ، بينما السياسة متغيرة تبعًا للظروف والمصالح، إن مصر وتونس رفضتا الحكم الدينى، ولسان حال الشعبين يقول لسنا فى حاجة إلى دولة ترعى الإرهاب الفكرى باسم الدين، وترفع سلاح التكفير فى مواجهة أى محاولة للتفكير، لسنا فى حاجة إلى دولة يهيمن عليها المهووسون دينيًا، الذين لا يفرقون بين النص المقدس وتأويله، الذى هو من صنع البشر ومجرد اجتهاد قد يصيب وقد يخطئ، إننا نريد دولة وطنية حديثة تحترم المساواة بين جميع البشر بغض النظر عن الجنس واللون والدين، نريد دولة تحترم المواطنة الكاملة غير المنقوصة، دولة تحترم المرأة كإنسان وتعطيها الفرصة كاملة للتنافس فى مجالات العلم والعمل مع الرجل يدًا بيد وبنفس الظروف، ولا تختصر المرأة وتنظر إليها كمجرد جسد وأداة لمتعة لحظية.

إن الدولة المدنية الوطنية الحديثة بهذا المعنى لا تتصادم مع الدين إذا أبقينا الدين فى دائرة العلاقة بين العبد وربه وتركنا إدارة الدولة للناس دون سلطان من طبقة الكهنوت أو رجال الدين، أو الشرائع الدينية، فالناس أدرى وأعلم بشئون دنياهم، إن الدولة المدنية الوطنية الحديثة هى دولة القانون والدستور الوضعى المستمدين من التجارب الإنسانية ومن الواقع؛ لتنظيم حياة المجتمع بتحديد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحديد حقوق وواجبات المواطن، وتكون فى المجتمع ثلاث سلطات أساسية، هى التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعدم تداخل هذه السلطات بل تكاملها، وكذلك تتوافر فى المجتمع الحرية واحترام الرأى الآخر، إن الدولة الدينية مرفوضة رفضًا باتًا، ولذلك ثار المصريون والتونسيون رفضًا للفاشية التى ترتدى قناعًا دينيًا، وتماشيًا مع ثورة الشعبين ضد الأصولية الدينية لا يجوز بأى حال من الأحوال استمرار وجود أى حزب سياسى يحمل مرجعية دينية، لأن وجود مثل هذه الأحزاب يتعارض مع مطالب الشعبين ، كما أن استمرار وجودها يقوض أركان الدولة الوطنية الحديثة.