رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبجدية أخرى للماء

 حسام المقدم
حسام المقدم



يا ليل، يا عين، يا نهار، يا عالم..
انفلتَ تليفونى من يدى، راح فى النهر، بعد رَبكة لحظيّة وأنا أُخرِجه من جيبى لأَرد على الرقم المجهول.
تجمّدتُ مُنحنيًا فوق سِياج الكوبرى، راشقًا عينىَّ فى البُقعة التى غاصَ فيها، انزلقَ فى لمحة، مثل سمكة تعرف ما تفعل جيدًا. لا أثر سوى فُقّاعَتين أو ثلاث، صعدت لتخبرنى أن التليفون نائم فى الأعماق بأمان (!) يفوق استقراره معى طوال أربع سنوات.
استمرَّ تيار النهر فى الجَريان، بنفس المزاج غير المُبالى، شمس العصارى لا تزال حامية، ومن ورائى حركة العربات والناس فوق الكوبرى القديم، فى الأسفل لمعت المياه أكثر مع تواصل تدقيقى العَبثى. انفجرت خَمس أو سِت فُقاعات جديدة دُفعة واحدة، بعدها رأيتُ الموج الهادئ يتلَوَّى فى دوّامة، فركتُ عينىَّ للتحقق ممّا يحدث: فقاعات كثيرة مُتلاحقة تفور نحو السطح ثم تنطفئ، لتتوالى وراءها أعداد كثيرة.. هل تنفَّسَ فجأة كائن خرافى؟ لكننى رأيتُ الملابس المُلونة المنفوخة تحت الماء، وعرفتُ أصحابها الذين يُصارعون الغرق، أصحابها المُسجَّلين عندى.. كل الأسماء المُدوّنة على تليفونى، تغرق أجسادها الآن.
يا أنا، يا أى قَشّة قريبة.. أستميتُ فى الإمساك بحديد السِّياج، أُحسّ به يتخلخل ويميل بى، أرجع بجسدى للوراء قليلًا خوفًا من مصير «الطَّشّة» الكبرى فى الماء الرائق، لماذا شفَّ لهذه الدرجة؟ رغم عينىّ الغائمتين أقدر على تمييز طين الأعماق والسمك الصغير والكبير والأعشاب والقواقع الراقدة، هذه الأجساد المُتشنّجة، العيون المُقفَلة، والشفاه المزمومة بشدة، والخُدود التى تُقاوم ضغط الماء بطردِه فى دَفقات عصبيّة، الأذرع والأرجل الهائجة الضاربة فى ماء ثقيل، فى المقابل تُفاجئنى أجساد خفيفة بقدرتها على العوم والانفلات.. مشهد مثالى الرعب والعبث، يتبدَّى لى وأنا فى عجزى الكامل، دماغى يلفّ بى، والكوبرى نفسه بدأ يدور، أُغمض عينىَّ بشدة، وعلى الفور أفتحهما باتساع، بعد فزعة الخاطر الصاعِق: صحيح توجد أسماء وأجساد لا أتذكر ملامحها، لكن هناك أهلى، أبى وإخوتى وأعزّ الناس.. فعلًا أرى أبى يُعافر تحت الماء.. أبى.. لماذا استطالَ وجهُه وتَضخّم هكذا؟ هو بجلبابه دون العَباءة البُنيّة، التى انسلتت وتَكوّمتْ هناك فى القاع، قُم وخُذ عباءتك يا حاج، أعرف أنك لا تستغنى عنها، ضعها على كتفيك فى صباحات الفجر الباردة، وفى مشاوير الزيارات والأفراح.. يا حاااااااج، سكنت حركته، واستسلمَ على بطنه بفَم مفتوح يُخرِج الفُقاعات الهاربة.. أبى.. كيف تموت، وأنتَ بكل سنواتك السبعين لا تُعادِل حَقَّ طفل فى العاشرة؟ أيامك هى الآلاف من أوقات الشروق والغروب والزرع والقلع، شمسُكَ لم تُغادر المساحة الصغيرة فى الغيط والدَّار والجامع، آخرتها تموت هذه الميتة الرخيصة، وتُغلَق صفحتك البيضاء الشاهدة على أيامك، قُم واكتب فيها، أيها الأُمِّى، أى شخبطة، اضرب بيدك العفيّة على باب الدنيا الواسعة، لماذا أنتَ ساكت، أتموت راضيًا؟ يا أبى.. إنّ بعضى يأكلُ بعضى. أتصلَّبُ وأجزّ على أسنانى. هيا خُذ مِنى هذه الموجَة المرئية، موجة قوية من ضباب أو دُخان، مزَّقت صدرى وهى فى طريقها إليكَ، إنها تتسرب برفق إلى فَمك، تجعلك تنتفض فى نبضات حيّة، فى هذه اللحظة أبعث لك السلام والسلامة يا حاج.
أُريحُ عينىّ المُتعَبتين، تلزمنى لحظات كى أتمكن من تخليص كيانى الذائب، أبتسم بِشَجن، للخلاص الذى لاحَ مع الوجه الأسمر لصاحبى الغالى، تكبُر ابتسامتى حين أشاهد جسده يسبح ويتجول باحتراف، خَدّاه سينفجران من كَتم ضحكة مُختزَنة، يُشير نحو زجاجات كثيرة متناثرة فوق الطين، وكلها مختومة لم تُمَس، يُمسِك واحدة ويرفعها فى مُواجهتى، عيناه مفتوحتان تحت الماء.. أنا واثق إنه نظر لى، بسطتُ يدى لأتناول الزجاجة الفخمة، تمايلتُ فى سَلطَنة، أنا أعرف وهو يعرف، معًا رأيناهم منذ سنوات بعيدة، فى ذلك البلد الجار، وهم يرمون فى النهر كل هذا العدد من زجاجات الخمر، رئيسهُم فى أُبهَة يقف، وحوله التهليل والتكبير، بعد قرار تطبيق الشّريعة، ظلّت الزجاجات المسكينة يدفعها التيار، وتزحف ببطء طوال ذلك الزمن حتى وصلت إلى هنا، مُعتّقة وباردة أيضًا! أَغمضَ صديقى عينيه، وعَبّ من الخمر الحلوة، انثنَى جسده الثعبانى برشاقة.. ما هذا؟ إنه يفتح زجاجة وراء الأخرى، ثم يتركها تُفرِغ نفسها، أرى السائل الغامق يسرى فى الماء، يتوغل بلا حساب فى أفواه الأجساد المُشتاقة، ترشُفه الأسماك النشوانة.
كنتُ أشرب دون شُرب، أَسكرُ فى مكانى. بقيتُ وقتًا لا أُحدد شيئًا، أحاول أن أفيق لأُفرِّق بين باقى الوجوه.. صِحتُ: مَن؟ «حَسن م»؟ تذكرتُ أننى كتبت اسمه من سنوات، دون أن أتصل به، إنه أمامى لا يريد أن يغرق، يعفق باستِماتة فى رِجْل واحد يعوم بمهارة، والله زمان يا «أبوعلى»، صُدفة أفضل من ألف ميعاد من مواعيدك غير المُتاحَة، وفرصة كبرى أن أُذَكِّركَ بشريط حياتك: خمس وعشرون سنة فى الخليج، وعقارات وأراضٍ وعِيال فى مدارس أجنبية، زياراتك القليلة للبلد، ومِشيتك بالجلباب الأبيض الذى يشرب من عليه العصفور.. صحيح، القلم المُذهَب الظاهر دائمًا فى أعلى الجيب، وحين يُلقون عليك السلام المعروف السريع: «سَمُو عليكو» أو «سَلامو عليكو»؛ ترد بالسلام الكامل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فى مرّة وحيدة سِرتُ معك، وسمعتُ لسانك الطّلِق يرمى السلام الطويل ويرد بِمِثله دون مَلل طوال الطريق، هل تذكر أيام المدرسة؟ أنتَ أساسًا لم تنسها، رغم قدرتك الفذّة على التخطّى، وطمس ذلك العدد الكبير من لسعات «الخرزانة» على كل سنتيمتر فى جسمك، هل أُضيف شيئًا آخر؟ أبوك «هو صاحب أبى لو تذكر» قال لى مَرّة، فى ساعة صَفا، إنك بعد تلك السنوات، لم تُرسل فيزا واحدة أو عَقدًا لأحد من إخوتك.. تعال يا حسن، قُل معى، أقصد قُل ورائى، ورَدّد الحروف بصوت واضح: أَلِف أَغْرَق، باء بِسُرعة، تاء تِمسااااح! لا تخَف، كُلنا لها، نهايتك سهلة جدًا، كل ما فى الأمر أننى سأصرُخ فى الرجل الذى يسحبك وراءه: اتركه، ارفُس ذلك الذى نجا بنفسه من سنوات طويلة، ويريد أن ينجو الآن.
تَلوَّنت الدنيا بالرمادى، اصفَرَّت مرة أخرى، ثم ازرَقَّت فى لون الباذنجانة. استبدَّتْ بى الهلوسَة، تركتُها ترفعُنى وتُنزِلُنى، إلى أن أبصرتُ بصعوبة أربعة أشباح أو خمسة، مضوا يسبحون فى سِرب واحد، عرفتُ منهم «ولاء» التى تقودُهم كالسَّهم، بوجهها الجميل المُصمّم.. لا، انتظرى، أعرف دماغكِ الصّعب، المُمتلئ بأمرين لم أرهما يجتمعان، والأعجب يتعادلان بهذا القَدْر: أعظم حُلم وأكبر يأس! هل يُجدى صوتى المكتوم فى إرجاعها؟ للأسف غطسوا جميعًا فى منتصف النهر.. عُودوا، ارجعوا عن انتحاركم، قُولوا: أَلِف أَرنب، باء بطّة..
هل تسمعون؟
يا أنتَ، يا أنتِ، يا تليفونى الغريق..
إهداء: إلى فكرى عمر،
صُحبة الأيام والكُتب والقلق.