رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصعود الخاطف والانحدار السريع «5»


كنت أحتاج إليها وجاءت فى الوقت المناسب تمامًا، كنت أحتاج إلى عمود يثبت خيمتى بعدما بدأت أفكر فى الرحيل، تعبت من شحاتة، من أفعاله، من حبى له، من سيطرته على تفكيرى، من هوسى برجل لا يعرف كم يحبنى ولا يدرك عمق ما بيننا، لا يستهتر به لكنه لا يعطيه حقه، مللت، تعبت روحى من التوق المستمر، والاحتياج المتزايد له، كأنى طفل رضيع متعلق بأمه، أبحث دائمًا عن الوجه الوحيد الذى لا أرى غيره، لم أكن أبحث عمَّن يرانى، كنت أبحث عمَّن أراه وما زلت لا أرى سواه.
روحى أسيرة، معبود وعابد لا يوسوس له خناس، أعلم أنه لا سحر ولا شعوذة، لكنها روحى وتوقها الدائم إليه، كان موجودًا بينى وبين نفسى، أحكى له وأعيد على مسامعه وعلى صورته الحاضرة فى نفسى، كل تفاصيل يومى.. ماذا فعلت.. ماذا قلت؟ كل طاقتى موجهة إليه.
وجاءت فقيدت حركتى، ولم تجعلنى أفر، هى الوتد الذى ثبت أركان خيمتى، لم أتمن وجودها، كنت مكتفية به، لم يكن لدى عجز أو نقص فى الأمومة، وعندما جاءت رأيتها عطية، هبة، منّة من السماء، جسدى كان مستعدًا للقائها، أشكو من ثديى اللذين ينزل منهما سائل أبيض يشبه اللبن، وعندما أشتكى لخالتى تضربنى على فخدى: خلى الواد شحاتة يبطل.
أرضعتها ولم أجعلها تبتعد عن عينى، تمسكت بها كحبل نجاة لغريق، فسميتها «نجاة»، جعلتنى أفكر فى الاستقرار، العمل فى مكان محدد والإقامة فيه، كنت أخاف عليها من اللف فى الموالد، ومن المستقبل الغامض.
اقترحت الرأى على «شحاتة» لم يوافق ولم يرفض، وجود «نجاة» لم يقرب بينى وبينه، لكنها فى أوقات كثيرة كانت حائلًا بين جسدينا، هو أيضًا أحبها، ولكنه لا يظهر عواطفه، كما أنه لم يعترض على تعلقى بها.
عندما جاء موعد دخولها المدرسة، أصررت على ألا أحرمها من فرصة تستحقها.. البنت جميلة ونبيهة، تحايلت على الإقامة بغرفة فى طنطا فى جوار السيد البدوى، وكان لدىّ غرض أن يقتنع شحاتة بالعمل فى سيرك عاكف.
دراسة نجاة جعلتنا لا نرحل لكل الموالد، خاصة فى الشتاء، وعندما يأتى الصيف تصحبنا فى المولد، وفجأة اختفت، غابت عنى يومين، كدت أفقد عقلى.. انفض مولد «العدرا» فى جيب الطير، ولم تظهر، أخذت أبحث عنها، قلت له لن أترك المنيا، بقيت عامًا، عامين، أقمت نصبة للشاى، استمررت فى التفتيش عنها فى صمت، أتطلع فى الوجوه، وأدخل البيوت، لعلها تكون خلف أحد الأبواب، أقرأ الطالع والودع، أستمع لحكايات النساء.. النميمة، الهمسات، الغمزات، أغزل حكايات عن الفقد والغياب، حكايات أسترجعها من الذاكرة، لعلِّى أسمع سيدة تروى عن فتاة، لا أحد يعرف قصتى.
مرت سنة، سنوات، ورأيتها لم أعرفها، وقفت سيارة مكشوفة، طلب السائق كوب ماء للهانم، توجهت لها مدت يدها، وشربت، تأملتها لم أعرفها، لكنى أحسست بها.
قالت لى: «مرسى»، ابتسمت فى وجهى، كأنها لا تعرفنى، وأنا مصدومة مبهورة.
سألت بعد أن غابت ثانية:
- مين البيه؟
- ابن صالح بيه
- البيه الكبير؟
- البيه الصغير
لم أجرؤ على أن أسأل عنها.. هى لم تتجاهلنى، معقول تتجاهلنى، تنكرنى، شعرها الطويل مقصوص، النمش قل، لونها أكثر بياضًا، اللون الخمرى، كان من الشمس واللف فوق الطرقات، ابتسمت ابتسامة أعرفها تمنحها الكريمات وبنات البيوت الأصيلة.
- والهانم خطيبته بنت مأمور ملوى.
زوجته الأولى توفيت وجاءت ابنته الكبيرة من مصر لتعيش معه بعد وفاة والدتها.
تمنيت أن يكون شحاتة حاضرًا كى يؤكد حقيقة ما أرى، أو أنها خيالاتى، لا أنكر أننى كثيرًا ما أسمعها تنادينى فأرد بسرعة: نعم يا حبيبتى.
وأنتبه إلى أنها هلوسات بعد أن انتبهت للحقيقة وبدأت أصدقها، أخذت أرد فقط بصوت منخفض، أو أقطم الكلمة الثانية «يا حبيبتى»، وتظل الكلمة حلقة معلقة فى زورى تضغط على عنقى تخنقنى وتنتابنى نوبة سعال، لا يفكها غير أن أنفرد بنفسى، وأبكى.. أبكى، تفك تشنجاتى ونهنهة البكاء الحلقة رويدًا.. رويدًا.
أن تفقد ابنك صعب، ولكن يهون عليك أنك تعلم مكانه، وتعلم أنه فى رحمة الله، الأصعب ألا تعرف أين هو؟.. من يتعامل معه؟ كيف يأكل؟ كيف يشرب؟
هل أحكى لشحاتة؟ حاولت أن أقول له.. فوجئت بخوف شديد.. يمنعنى من الكلام.. هل لدى شك؟ أنا أعرف رائحتها، ابتسامتها علوية، ملكية، مرسومة.. بياض ملابسها الناصع.. الجوانتى.. خفت على كل هذا، إذا كانت هى فعلًا ابنتى فلماذا أنكرتنى؟ هى لم تتعرف على وجهى، لم تكن هناك دهشة، أو ربكة فى وجهها، كانت شاكرة، ممتنة فحسب لليد التى امتدت لها بكوب ماء، ربما مجرد تشابه، «يخلق من الشبه أربعين»، هل يمكن أن تكون توأمها، مَن هذه الفتاة؟ وأين ابنتى نجاة؟