رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ده الشجيع يا جدع»!


فى طفولتنا كنا نذهب كل يوم خميس إلى سينما «الشرق» القريبة من منزلنا بشارع خيرت. نبدأ الأمسية بكوب سوبيا بقرش صاغ ثم نشترى تذكرة دخول بثلاثة قروش إلى «الترسو». معظم الأفلام التى شاهدتها هناك كانت عن رعاة البقر فى الغرب وبطلها اللامع هو جارى كوبر المنهمك فى مطاردة الأشرار

من أول لقطة إلى آخر لقطة من دون أن ينزل من على حصانه لحظة واحدة . فى أحيان كثيرة كان الحصان وليس الممثل يثير دهشتى بطاقته على الجرى متحملا ثقل النجم العملاق فأهمس للحصان فى سرى «والله أنت اللى شايل الفيلم»! بطل تلك الأفلام كان بالنسبة إلينا «الشجيع». نتعجب بسرور ونحن نراه يمضى تحت وابل من الرصاص والبارود يتفجر حوله والسهام تنهمر عليه لكنه يخرج من كل هذا سالما بياقة قميصه مفرودة كما كانت وأحسن! وإذا بدا الذهول على أحدنا صاح فيه الثانى بحرارة «ده الشجيع يا جدع»! أى أنه البطل لا يمسه أذى ولا يطاله جرح!. حين كبرنا وعركتنا الحياة أدركنا أن أبطال الأفلام لايتعرضون للأذى، أما أبطال الواقع فغالبا ما تطالهم المعارك بجراحها، وأحيانا يموتون أو يقتلون فيها. معظم زعماء الثورات فى العالم تعرضوا للنفى والموت. أحمد عرابى كان قاب قوسين من الإعدام ثم نفى إلى سيلان لعشرين عاما عقابا له على اعتقاده بأننا «لسنا عبيدا ولن نورث بعد اليوم». عمر المختار تم إعدامه فى 16 سبتمبر 1931 وظلت حية من بعده صيحته العظيمة «لا تحنى رأسك فقد لا تتاح لك الفرصة لرفعها مرة أخرى»! لينين تعرض لمحاولة اغتيال فى روسيا عام 1918على يد اليهودية «فانيا كابلان». سعد زغلول تم نفيه إلى مالطا فى مارس 1919. غاندى تعرض لست محاولات اغتيال وسقط صريعا فى 1948 بثلاث رصاصات أطلقتها عليه امرأة هندية . عبد الناصر تعرض لمحاولة لاغتياله من الإخوان فى أكتوبر 1954. نلسون مانديلا قضى نحو ثلاثين عاما فى زنزانة. جيفارا اغتالوه فى أكتوبر 1967. مارتن لوثر كنج اغتالوه فى أبريل 1968. ياسر عرفات توفى بالسم فى نوفمبر 2004. وسنجد قائمة طويلة أخرى للكتاب والمفكرين «الشجعان» الذين تعرضوا للاضطهاد والملاحقة عبر التاريخ. أما جارى كوبر، وجريجورى بك، وشون كونرى، وغيرهم من أبطال الشاشة فى الستينيات فكانت لديهم حصانة ضد الخطر، تجتمع على الواحد منهم جيوش الأمم كلها فينتصر عليها بمفرده فى الجو والبر والبحر من دون أن تبتل علبة سجائره أو تنطفئ لمعة حذائه البراق. حين كبرنا أدركنا أن «الشجيع» فى أفلام الطفولة شىء، و«الشجيع» فى معترك الحياة الاجتماعية الواقعية شىء آخر. ولسبب مجهول، يبدو زعماء المعارضة عندنا مثل «شجيع السيما» محصنين ضد المخاطر يخرجون من كل ورطة مبتسمين وياقات قمصانهم مفرودة ونظيفة، بينما يموت جيكا عصفور الثورة، وغيره من الشباب الذين يقتحمون النيران. فى السينما قد تهوى ذلك البطل الخارق الذى لا يتأذى، لكن فى الواقع ستعشق جيكا وسالى والحسينى أبوضيف وغيرهم من الشهداء الذين تطالهم الطعنات وينفذ الرصاص إليهم. فى السينما تكون الصورة هى الأساس، وفى الواقع يكون الفعل هو الأساس. ولسبب مجهول فإن معظم وجود زعماء المعارضة عندنا يتجسد على شاشات التليفزيون وفى صور الجرائد، أما الفعل فيقع على عاتق عمر بائع البطاطا الصغير. البرادعى على سبيل المثال لم يتعرض لأى تهديد أو خطر حقيقى ماعدا مرة كان يدلى فيها بصوته فى مارس 2011 بشأن التعديلات الدستورية فى مدرسة خلف قسم شرطة المقطم ورشق الأهالى سيارته بالحجارة وأجبروه على الهرولة والهروب، واحتفظ بعدها بوجوده السياسى فى الصور بعيدا عن بطولات الواقع. أما السيد البدوى- رئيس حزب الوفد- فتلقى صفعة على قفاه فى ميدان التحرير فى نوفمبر 2012 وحافظ بعدها على وجوده فى «الصور». أيمن نور كان الوحيد الذى سجن فى ديسمبر 2005 لكن لسبب يتعلق بتزوير التوكيلات لحزبه. بينما سقط نحو ألف شهيد فى 25 يناير غير الذين استشهدوا بعد ذلك. زعماء المعارضة عندنا من النوع الذى يقال عنه «ده الشجيع يا جدع» أى أنه لايصاب بضرر ولا يموت، لأن المعاناة والموت فى الثورات من نصيب البسطاء الذين لا يطمحون إلى زعامة أو منصب أو قطعة من كعكة السلطة. وقريبا ستبدأ فى مصر الانتخابات الرئاسية، وستجد أن كل أولئك قد اندفعوا إليها، على أساس أن «الشجيع» يظل حيا حتى نهاية الفيلم بل وعادة ما يفوز فى النهاية بالكنز المخبؤ أو بالأميرة الجميلة، فيأخذها على حصانه ويرمح بها ليقضى ليالى الهناء والسرور. أما نحن المتفرجين فسنرجع إلى بيوتنا مبهورين هاتفين «ده الشجيع يا جدع»! لا نريد أبطالا فى انتخابات الرئاسة القادمة. البطل الوحيد الذى سأعطى له صوتى هو برنامج «اقتصادى وسياسى محدد ومعلن. لقد أصبحنا فى أمس الحاجة إلى انتخاب» برنامج «يحكم مصر»!

■ أديب وكاتب