صوت أبيض
اصبر يا مؤمن، يا مَنْ تحج لأول مرة، مثل «رفعت».
هنا «السّيل الكبير»، أحد أماكن الإحرام، على مشارف سبعين كيلومترًا من مَكّة. يَمرُّ به الحجَّاج القادمون من العاصمة، وما تلاها من مُدن على الطريق السريع. فى المدخل ساحة خضراء واسعة، وبعد ذلك، فى الممر الضيق الطويل، هناك روائح العرق غير المُحتمَلة، وسط اختناق المرور بين الأجساد المحشورة. الهواء مجرد أنفاس حارّة مُرتَجَعَة، تتناقلها الأنوف. عشرة على الأقل يصطفون أمام كل حَمّام. يفرك «رفعت» عينيه أمام ما يرى.. يا دين مُحمّد، من كل هؤلاء؟ يُخبره الرِّفاق القُدامى من المُدرِّسين بأن الحج من داخل البلد شاق، ولا بد من التحمُّل. عادوا وطمأنوه: كلها ربع ساعة على الأكثر.. تدخل الحمّام، ثم تخرج منه واحدًا آخر بالرداء الأبيض. من هذه اللحظة لن تكون مجرد سائق، وسيُناديك الجميع بالحاج راح، الحاج جاء! يبتسم وجهه المكرمش لوقع الكلمة الجميلة على أذنيه، خصوصًا ونظراته تتجه للخارجين المُغتسلين بهيئتهم البيضاء الجديدة.
أكبر الزملاء عُمرًا هو الأستاذ «فكرى». يضع يده على ظهر «رفعت»، ويتمنى له حَجًا مبرورًا، وفى العام المقبل يكون بصحبة أبيه وأمه إن شاء الله. يقول الأستاذ إن هذه الأمور لا تغادر مَن يحج للمرة الأولى. لك أن تحج بعد ذلك ما تشاء، لكن تبقى الأولى بإحساسها، بالخضوع الكامل وتسليم النفس. تنظر للسماء حينها، وتشعر بعيون عُلويّة مفتوحة نحوك بالرضا والرعاية، حين تخطو خطواتك الهادئة فى ردائك غير المخيط. الجزء السفلى الملفوف حول الخِصر، يُؤطر حركتك ويضبطها. أما العلوى فينسدل على كتفيك وصدرك العارى، ثمّ تضمه وتحكمه ذراعاك بتأنٍ ورفق، كأنه عباءة مَلاك. كلمات حقيقية ورائعة، حَرَّكتْ نسائم قُدسيّة فى قلوب السامعين، رغم الجو القابض. نسائم تُشبه ذلك الرِّداء المُوحَّد، الذى ساوَى بين الجميع.
طاف «رفعت».. لو يراه أبوه أو أمه الآن.. لن يملكا نفسيهما من الفرحة حين يُبصران ابنهما الحاج الجديد. يتمنى لو يركب بِساط الريح ويطير، ليأتى بهما حالًا. كل ما فى الدنيا يهون، ويرى الإنسان أباه فى هذا الأبيض، وإلى جواره تقف الأم بلبسها المُحتشِم. لهما بعد ذلك أن يُخلِّدا اللحظة، بصورة تُعلَّق للحاج والحاجة فى حُجرة الجُلوس أو فى الصالة، والبَرَكة فى الابن الغالى. لو فى الإمكان لتمّتْ دعوة العائلة كلها للحَج. أُمنية تحوم بجناحين من نور.
«يا نور النبى»..
يهتف «مجدى» وهو يرى «رفعت» خارجًا من الحمّام. عشر سنوات قصَّها من عُمره. أضاء وجهه بعدما غادره العبوس المُزمِن. يداه تجتهدان فى ضبط رداء الإحرام على جسده. يبدو غير مصدق. الله أكبر.. يُشيرون إليه أن يخرج إلى الساحة الخضراء ليُصلى، ويقعد مُنتظرًا. يُؤكِّد عليه «مجدى» بإصرار من إصبعه وفمه المُبتسم: إياك أن تنام. يضحكون كلهم!
«رفعت» هو السائق المصرى الوحيد فى المدرسة، مع اثنين من الهنود هما «شِترا» و«عبدالمَنّان»، و«أمير» الباكستانى. وصل قبل شهرين تقريبًا من موسم الحَج. أرسله الكفيل لينام فى سَكَن المُدرِّسين ليلة أو ليلتين، لحين توفير سرير له فى سكن السائقين والعُمّال. فى الليلة الأولى ارتاح المُدرسون الخمسة لوجهه الطيب المُتعَب، وارتاح هو فى الحكى عن الدَّيْن الكبير المطلوب تسديده: أحد عشر ألف جنيه ثمن الفيزا الحُرّة التى جاء بها. كشفَ عن حُلمه بامتلاك سيارة ميكروباص، بعد عُمر بطوله من العمل على عربات الناس. قال الكثير وسط الآذان المُتسمِّعة، والرءوس الساهرة على كلمات حفّت بالقلوب، حتى ما قبل الفجر. دارت العقول كثيرًا، ولم ترجع لنقطة بدايتها التائهة، وإنما سَفَر وسفر لأراضٍ ضبابية لا تبين. وحين جاء النوم الذى أخَّرَ نفسه طويلًا؛ وجد العيون قد استسلمت بسرعة، وانغلقت أخيرًا على خيالات الجرى والضرب والتدافع الأعمى. ينقلب «مجدى» على جنبه، مُحاولًا إبعاد تلك الأصوات اللحوحة المُلاحِقة. يَلمُّ ذراعيه حول أُذنيه، ليسدَّ المنافذ أمام الجَرّار الزراعى الذى يُحشرِج ويَدبّ مقتربًا. ربما دبَّابة تمشى على حصى، والحصى فى رأسه هو. لا لا.. يقوم نافخًا النار من جوفه. يسمع الفواصل الرخيمة والشهقات العالية المشروخة. يتأمل وجه «رفعت»: هادئ، إلا من شهيق وزفير مُنتَفِض، بهذا النَّغم الرهيب من الشخير المجروح. «سعد» مُمَدّد وفوق رأسه المخدّة. يقوم مبعوثًا على هذا الضجيج. يتطوّعَ ويمدُّ تليفونه المحمول جنب النائم، ليُسجِّل أعظم شخير فى العالم! أيقظوه وضاحكوه، وأسمعوه مُعجزته الكبرى. ضحك ومطّ شفتيه: يا ساتر! طمأنوه وقالوا إن التعب الشديد فى السفر هو السبب. فى الليلة الثانية حدث نفس الشىء. ذهب الأستاذ «فكرى» وأيقظ «رفعت»، طالبًا منه أن يجلسا فى هواء الخارج قليلًا. بعد عشر دقائق دخلا، وانحنى «رفعت» يحمل بطانيته، ويقول إنه سينام فى الباص الواقف أمام السَّكن. حافظَ على كلمته ليومين كاملين، حتى فى الظهيرات القاتلة. حافظَ كذلك على وجهه المحايد.. يأخذ سهرته معهم كما يتطلب الجو، ثم يتكور فى الباص حتى الصباح. بعد ذلك وجد مالك المدرسة له حجرة صغيرة مستقلة، فغاب عن القعدات ولم يعد يظهر تقريبًا خارج أوقات العمل، كسائق للباص مسئول عن إحضار الطلاب فى الصباح، والذهاب بهم لبيوتهم بعد انتهاء الدراسة. فى المقابل لم يَغبْ ذلك التسجيل الهادر، كدليل متفرد على الشخير النغمى الخارق، وواصلَ حضوره وانتشاره بالبلوتوث لكل الآذان فى المدرسة!
فى الساحة العُشبية تلاقت وجوه الحُجَّاج المُنوّرة، وعلى الأجساد المغسولة انسدلتْ أردية فى بياض القشدة. البعض يُصلّى فى المستطيلات المفروشة بالسجّاد، آخرون قعدوا وتمدّدوا على الحشيش الزاهى. مشى الصفاء والاسترواح إلى الرءوس. الحمد لله لم ينم «رفعت»، و«مجدى» يُصرُّ على تذكيره بيوم ماتوا فيه من الضحك: فاكر يا حاج «رفعت» يوم البطحاء مع زميلك السوّاق الهندى «شِترا»؟ بانت أسنانهم جميعًا فى نفس اللحظة. فعلًا لا ينسون ذهابهم لحى البطحاء المزدحم فى ذلك اليوم بالذات، مع أنهم لا يكفون عن التجول هناك باستمرار. فرصة كبيرة لرؤية كل ذلك العدد من الناس، بعيدًا عن السكوت الكهفى لحى المدرسة والحى الذى يسكنون فيه. يومها كان «شترا» معهم، وبعد أن شبعوا من اللف والدوران على كل المحلات دون التقيد بشراء أى شىء؛ خرجتْ «الله أكبر» فوق رءوسهم فجأة. ارتفع الآذان، ومعه كالعادة صلصلتْ واصطكتْ الأبواب بسرعة. لم يشعروا بالعربة البيضاء تقف فى الجوار، ومنها ينزل رجال «هيئة الأمر بالمعروف..» يصيحون: الصّلاة يا إخوان. أشاروا بحسم لباعة الشارع المُتباطئين فى لمِّ بضاعتهم المفروشة، ولكل السائرين، بالهرولة نحو المسجد. سبق بالدخول «سعد» والأستاذ «فكرى»، وبقى «مجدى» و«رفعت» يتابعون «شِترا» يتكلم مع رجل الهيئة، الذى دفعه هو الآخر للدخول. وجد نفسه أمام الحمامات الكثيرة، لا يدرى ماذا يفعل. رآه «سعد»، فلم يُصدّق وجود «شترا» الهندوسى فى المسجد. أشار إليه أن يظل فى الحمّام. بعد الصلاة سيذهبون كلهم إليه، ويأخذونه بِوَصلة ضحك مُتسلسل: كيف دخلتَ يا «شترا»؟ لماذا لم تُفهِم الرجل أنك غير مُسلم؟ ماذا قلتَ له؟ خلاص، أنت أصبحتَ مُسلمًا يا «شترا»، انتهى الأمر بدخولك المسجد. ضحكَ معهم، وحكى عن الصمت الحَذِر الذى لازمه فى الحمّام، ثم سألهم عن الصوت الجميل الذى سمعه. مَثَّلَ ذلك بتنغيم صوته الهادئ، مع حركة ليِّنَة من يده الصاعدة والهابطة. أجابَ «سعد» بلسان يُجوِّد ويُنغِّم آيات القرآن، مثلما كان الصوت الخاشع النقى لإمام المسجد. هزَّ «شترا» رأسه، ومشى الجميع لحظتها فى استسلام شامل للنشوة الصوتية السارحة بهم.
نشوة، وأى نشوة يفعلها صوت «عبدالباسط عبدالصمد»، الطائف بالكائنات البيضاء فى الساحة الخضراء. صوت مُقطَّر يُوشك، من فرط نقائه ورهافته، أن يُذَبذِب الحشيش الكثيف، ويُنيمه فى موجات مُتتالية.
تساءلَ الأستاذ «فكرى»: هل مشى وراءنا صوت «عبدالباسط» كل تلك المسافة؟ ردَّ «رفعت»: حقيقى والله، لقد تركته فى دارنا ساعة الصبح، فى الراديو، أو فى قنوات القرآن على الدِّش. أضافَ «مجدى»: وفى المآتم، حين يصدح من مُكبرات الصوت النقيَّة. قال «سعد»: يا سلام عليه فى التسجيل الحى على إذاعة القرآن الكريم، قبل الإفطار فى رمضان. وآه عندما يقرأ سورة «يوسف»، ويأتى عند «وقالت هَيْتَ لك».. بِكَم قراءة قالها؟ عاد الأستاذ «فكرى» وأضاف: والله تحِس أنّ «عبدالباسط» جاء بكل ذلك معه إلى هنا.
التمعت العيون وسرحت فى البعيد. قاموا جميعًا للصلاة، بكل ذلك البهاء الأبيض، مُستقبلين القِبلة، جِهة الكَعبة غير البعيدة.