رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حرارة الصيف تشعل الحرب.. برد الشتاء يولد الحب




فى عامى الدراسى الأول فى كلية الإعلام، كنا ندرس مقررًا لمادة الجغرافيا، وكان المنهج يركز بشكل أساسى على العوامل الجغرافية المؤثرة فى التنمية البشرية، ومن بينها المناخ، وكان أول ما ‏طرحه علينا أستاذنا الدكتور محمد أبوزهرة سؤالًا عن تأثير المناخ على ذكاء الإنسان وتقدمه العلمى.. ولا أدرى لماذا كان صدمة بالنسبة لى أن المناخ يؤثر بشكل كبير على قدرات الإنسان العقلية، ‏وبالتالى على إمكانيات تحصيله العلمى، بل على سلوكه الاجتماعى. ‏
بمرور الوقت، وازدياد الإحساس بارتفاع درجات الحرارة فى القاهرة، بدأتُ أبحث فى الكتب والمقالات العلمية عن تأثير ارتفاع درجات الحرارة على الفرد وبالتالى المجتمع، وقد خرجت بيقين أن ‏مقولة تأثير المناخ على الإنسان ليست مقولة استعارية كما كنت أتوهم، فالمناخ المتطرف، سواء فى اتجاه ارتفاع درجات الحرارة حد القيظ، أو فى انخفاض درجات الحرارة حد الجليد، يؤدى إلى ‏استجابات إنسانية غير سوية فى كلتا الحالتين. ‏
وفى عرضه للعوامل المؤثرة على الإنسان وسلوكه ورؤيته للحياة، يشرح العالم الأمريكى «آدم أتلر» فى كتابه «الزنزانة الوردية»، أن الطقس الحار يزيد العنف بين الأفراد، فحرارة الصيف ‏تجعل الناس متحمسين جسديًا، حيث تتسارع ضربات قلوبهم ويتعرقون أكثر، ويخلط الناس حين يواجهون موقفًا عصيبًا بين الشعور بالحماسة والشعور بالغضب، فتزداد المشاحنات كلما ارتفعت درجة ‏الحرارة، ومن ثم تزداد إمكانية اشتعال الحروب فى المناطق الحارة. ‏
فى حين يؤدى انخفاض درجات الحرارة إلى زيادة الإحساس بالوحدة والعزلة، وبالتالى تزداد الرغبة فى الارتباط وتعميق الروابط والصلات الإنسانية مع آخرين.. فبرد الشتاء يولد الحب.. وقد وجد ‏باحثون أن الرجال يمرون بمعدلات موسمية وصلت إلى الذروة فى هرمون «التستوستيرون» لديهم فى فصل الشتاء بنسبة ٣٠٪، فى حين ينخفض معدل «التستوستيرون» فى الصيف، لذا يزداد ‏معدل المواليد فى أواخر فصل الصيف فى شهور أغسطس وسبتمبر وأكتوبر.‏
وعلى مستوى الترفيه، فإن الناس يميلون إلى مشاهدة الأفلام الكوميدية والرومانسية أكثر من الأفلام الأخرى فى الطقس البارد. ‏
والطقس يؤثر على طريقة وعمق تفكيرنا، فقد وجد الباحثون أن الطقس الغائم يعكر حالتنا المزاجية مما يجعلنا نفكر بشكل أعمق وأوضح، ويميل البشر بيولوجيًا إلى تجنب الحزن، ويسعون لتحسين ‏حالتهم المزاجية بحماية أنفسهم ضد أى أمر يحزنهم، وعلى النقيض، فالطقس المشمس يبعث الراحة والسعادة التى تبث إشارة توضح أن كل شىء على ما يرام، وأن البيئة لا تشكل تهديدًا وشيكًا، وأنه ‏لا توجد حاجة تستدعى التفكير العميق.‏
فتغيرات الطقس تؤثر بشكل كبير على حالتنا الجسدية والنفسية، ويطلق على أثر هذا التغير «اضطراب العاطفة الموسمى»، ويشهد هذا الاضطراب ارتفاعًا فى فصل الصيف وانخفاضًا فى ‏فصل الشتاء، ويظهر هذا التأثير بوضوح على الفنانين والكتّاب والمفكرين، حيث تأرجح الفنان التشكيلى الشهير «فان جوخ» بقوة بين فترات كآبته الشهيرة فى فصل الشتاء، وفترات فرحه العارم ‏فى فصل الصيف، وقد كانت أعمال «فان» الفنية تختلف باختلاف الفصول، وتغلب عليها السحب الغائمة والظلام فى أشهر الشتاء، وشروق الشمس والضوء والنجوم فى أشهر الصيف، وكانت ‏ضربات فرشاته العنيفة مليئة بأكوام من الألوان تصبح أكثر هياجًا فى أشهر الشتاء، وتفقد حدتها حين يأتى الصيف.. وهناك كتّاب وفنانون آخرون، مثل فون جوته، والملحنين «هاندل» و«مالر» ‏أنتجوا العديد من أعمالهم العظيمة فى الخريف والربيع.‏
ويهتم الباحثون بدراسة تأثير تغيرات الطقس على الساعة البيولوجية للإنسان، ويرفض علماء النفس فكرة نظام التوقيت الصيفى وأن يتم تقديم الساعة خلال أشهر الربيع والصيف، تحت فكرة ‏الحفاظ على موارد الطاقة، وأن يقضى الناس المزيد من ساعات الاستيقاظ بالنهار ويستغرقوا وقتًا أقل فى الاعتماد على الطاقة الكهربائية. وقد بدأ تنفيذ هذه السياسة فى الولايات المتحدة أثناء الحرب ‏العالمية الثانية.. لكن الدراسات التى امتدت لعقود أظهرت أن التوقيت الصيفى تسبب فى الاستهلاك المفرط للطاقة، حيث يقضى الناس أغلب فترات النهار فى استخدام المكيفات وأجهزة التبريد.. ‏وأوضح الباحثون أن تعديل الساعة البيولوجية للأشخاص مرتين فى العام له تأثيره الضار، فقد وجد أحد الباحثين المعارضين لسياسة التوقيت الصيفى أن الطلاب الذين يعيشون فى مناطق تتبع التوقيت ‏الصيفى يعانون لمدة سبعة أشهر فى العام من اضطراب إيقاعهم الحيوى.‏
أعتقد أننا نحتاج لدراسات مماثلة لدراسة تأثير أنماط سلوكنا فى شهر رمضان المعظم، حيث الإسراف فى الطعام والسهر حتى الفجر، والجلوس بالساعات أمام شاشة التليفزيون، فما مدى تأثير هذه ‏السلوكيات على ساعاتنا البيولوجية والنفسية والروحية؟، وكم من الوقت نحتاج لإصلاح هذا الضرر، وأيضًا دراسة تأثير طول فترة الإجازة الدراسية على أبنائنا، خاصة مع تغير نمط الحياة ‏والاستيقاظ متأخرًا والسهر أمام شاشات التليفزيون والكمبيوتر والموبايل.‏
إن الإسراف فى إهدار الوقت وتضييعه فيما لا طائل منه هو الآفة التى تأكل كل المحاولات الجادة لتنمية الإنسان المصرى، وهو ما يجب مقاومته والقضاء عليه.‏