رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سور القصر الصامت

جريدة الدستور

هذا الصباح ظللت أدفعهم للموافقة على خوض المغامرة معظمهم لم يَمِل إلىّ فى البداية كما توقعت فحولت الحكاية إلى تحدٍ مقابل ما أملكه فى حصالتى الخشبية لمن يعتلى معى السور ليلًا ثم يقفز إلى الداخل قبل الآخرين

بنظرة ممدودة إلى الأمام، وأنا ماضٍ إلى الكُتَّاب تحاشيت النظر إلى السور الشاهق الذى يحيط السرايا القديمة.. كان الصباح مُشمسًا، أرتشف الهواء بمرح وأنا أمضغ قطعة حلوى طرية يسرى سُكّرها سريعًا بفمى، وطوال الطريق أُفكر بخطتى التى جهزتها؛ لأقنع بها أصحابى نحو مغامرتى.
هم بالتأكيد يحلمون مثلى باعتلاء السور، والقفز إلى الناحية الأخرى فى الحديقة المهجورة للسرايا، أعرف ذلك من اتساع أحداقهم ولمعة الماء فى عيونهم إذا ما أتت سيرتها فى أى وقت.
كنت قد أعددت خطتى للقفز فوق السور على مدار يومى الإجازة، حين أعرضها عليهم سنتبادل الشتائم، والضحك الساخر، والاتهامات بمخالفة أوامر الوالدين، ونصائح الكبار وتخويفهم، لكنهم فى النهاية سيسلمون قيادهم لى داخل المتاهة التى أريد الدخول فيها، لكن ليس وحدى.. أصحابى وأنا أعرفهم.
قلت لهم إننا سنمتلك سِرّ تلك البناية الصفراء الباهتة التى تقعى وسط البلدة صامتة ككلب عجوز داخل السور، وسنعرف ما يسكن وراء شبابيكها الكبيرة التى تشبه عيون وحشٍ عملاقٍ ساكن، حتى إننى حين أطيل النظر بين خصصها الخضراء المتآكلة، ثم أدير عينىّ فى الناحية الأخرى أشعر بها ترسل فى إثرى كائنات خفية حتى باب البيت، تربض حول البيت حتى أنام، ثم تتسلل من شقوق الخشب بالباب الخارجى إلى الداخل، وتطوف فى الحجرة تنتظر الفرصة لإيذائى، أَلُف جسدى فى بطانيتى من رأسى إلى أظافر قدمى، لما تفشل فى العثور علىّ تبعثر كوابيسها المرعبة فى الحجرة، فتطاردنى أشباحها طوال النوم.
كانت خطوطنا الصغيرة بالأحجار الجيرية فوق المناطق المستوية من السور مثل تمائم سحرية لا تذوب من مياه المطر، ولا تفلح معها محاولات المحو بأيادينا الصغيرة. كل من كان يريد الانتقام من رفيق له يكتب اسمه، واسم البنت الصغيرة التى يحبها بالكامل، أو يسرد سرقاته فى جُملة معبرة فى المناطق المُمحرة من السور؛ ليراها الرائح والغادى.
هذا الصباح ظللت أدفعهم للموافقة على خوض المغامرة، معظمهم لم يَمِل إلىّ فى البداية كما توقعت، فحولت الحكاية إلى تحدٍ مقابل ما أملكه فى حصالتى الخشبية لمن يعتلى معى السور ليلًا، ثم يقفز إلى الداخل قبل الآخرين، فوافق اثنان لم أكن أطمح فى أكثر منهما، وعدنا بعد الخروج من الكُتَّاب من شارع جانبى؛ كى لا يعرف السور ما كنا نخطط له.
ذلك السور يحيط قصرًا لعائلة لم يعد أحد من مُلاكها يأتى إلى القرية إلا نادرًا، لكننى لم أرهم.. عبره لصٌ ذات ليلة ماطرة شديدة السواد فى طريقه إلى اختلاس ما تبقى فى القصر من كنوز، كما يحكى بعض مَنْ رآه، واستيقظت القرية على ملابسه الممزقة وآثار أقدامه، ولم يُرَ فيما بعد.
فى ذلك المساء الشتوى، سكنت القرية كأنما ماتت ميتة جماعية، وكفنت بملاءات وجدران، وسواد ليل اختفى قمره وراء سحب مظلمة.. كنا قد تأخرنا فى اللعب كما قررنا، دون أن نأبه لأهالينا الذين سيلفون بيوت الجيران ليبحثوا عنا.. حواسنا المتحفزة لالتقاط أضعف الإشارات تمددت كخيوط طحلبية لزجة فوق الحفر التى خلّفتها الأمطار بجانبه، واصلنا الصعود باندفاع مدروس بالأيدى والأقدام، قلت لهما، لأطمئنهما وأهدئ روعى وروع نفسيهما إنها مجرد لحظات، سنرى خلالها فقط ما يجعل الجميع يصمتون فجأة حين تمتد الحكايات عن السرايا وأهلها، استقرت قدمى فوق طوبه الذى اختبرت صلابته من قبل، وصعدنا إلى الأعلى متعمدين تقليل السرعة، حتى يزداد الاشتياق للوصول.
وأخيرًا شهقت فرحًا بعد أن اتكأت على يدى ووقفت فوق قمته مترنحًا فى البداية، ثم اندفعت إلى الداخل طائرًا بيدىّ وقدمىّ للحظات خِلت نفسى فيها عصفورًا يُحلّق فى السماء، ارتطمتُ فجأة بالأرض فغادرنى هذا الإحساس الرائع ليحل محله تحفز غريب، وتعب.. سمعت صوت ارتطام آخر بجوارى، لكن قدمىّ كانتا تؤلمانى، ورأسى ينزف دمًا، والمزيج الحارق لرائحة البرك الصغيرة والحشائش الهائشة كريه، فلم ألتفت لأحدهما، وفى التو انفتحت البوابة الخشبية العملاقة التى تنفتح فى السرايا ناحية الحديقة، خرجت منها كلاب، وقطط وحشية بعيون فسفورية، وأنياب تلمع فى الظلام؛ لتبدأ مطاردات عنيفة فى كل اتجاه. ناديت بأعلى صوتى، لكن نباحها ومواءها كان أعلى فيما هى مندفعة باتجاهى.
فوق الأرض المبللة، لم أستطع الجرى، جف حلقى ودارت بى الدنيا كأنها قذفتنى من أعلى السماء إلى قاع بئر دون رحمة.. لم يكن ثَمَّ وقت للتفكير فى التحولات المباغتة، ولا فى التراجع، وحين تحاملتُ لأقف على قدمىّ وأحاول المواجهة، أحسست بأظافر حادة تنمو سريعًا بأطرافى، وعظام ظهرى تتقوس، وشعر كثيف يغطى ملامحى، ناديت بفزع هذه المرة فخرج صوتى عواءً متقاطعًا مع الجوقة المتعاركة، لم أعد ألمح طرفًا لإنسان.. حينئذٍ وجدتنى أدخل قلب المطاردة الدامية بمخالبى وأنيابى النامية للتو؛ كى أستطيع النجاة.