رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من تبوك إلى قوات الردع بلبنان


يقول «فيليب حتى» أستاذ التاريخ بجامعة برنستون الأمريكية فى كتابه عن سوريا ولبنان: «إن جبال لبنان كانت مأوى للعصاة عبر التاريخ، فالجبال المنيعة وفرت الأمان للدروز والمارونيين والشيعة والمسلمين». لكنى أقول: «إن جبال لبنان كانت مأوى للمضطهدين».
بعدها احتلت فرنسا لبنان بموجب معاهدة سايكس بيكو، وأرادت أن تكون مركزًا للإشعاع الثقافى، فاحتضنت الموارنة، ووفرت لهم الثقل الثقافى والاقتصادى ونشرتهم فى العالم العربى، لكن المسيحيين بعد الاستقلال كانوا أكثر الشعوب العربية والإسلامية تمسكًا بالفكر القومى، ومع ذلك فإن الثقافة العربية والإسلامية لم تشيّد بواسطة العرب أو المسلمين وحدهم، بل أسهم فيها اليهود والمسيحيون والأكراد والأرمن والأمازيغ.
أما فى لبنان فقد أسست كل جماعة مسيحية جامعات لها، فالإنجيليون أسسوا الجامعة الأمريكية، والكاثوليك أسسوا الجامعة اللبنانية، والجزويت أسسوا جامعة القديس يوسف اليسوعية عام ١٦٣٥، فكانت مدرسة لاهوتية وغيرها من المدارس، فتسبب ذلك فى تحويل الشعب اللبنانى إلى فئتين، فئة مسيحية متعلمة وثرية، وفئة مسلمة فقيرة تفتقر إلى العلم.
جاء عبدالناصر فأسس جامعة بيروت العربية بمنطقة حبس الرمل، وتزايد الطلاب بها، فأصبحت تحدث خللًا فى التوازن الثقافى، وبسبب الترتيبات الاشتراكية فى مصر والعراق وغيرهما من المشرق العربى، هربت رءوس الأموال إلى لبنان، فأحدث ذلك خللًا فى الجانب الاقتصادى فاحتقنت الأجواء فى لبنان.
إن انقسام العالم العربى إلى اشتراكى ورأسمالى، جعل المسلمين يتجهون إلى المعسكر الاشتراكى والمسيحيين يتمسكون بالمجتمع الرأسمالى، وبدأ الجانب الاشتراكى يتنامى ويتغلغل فى منصات المجتمع الرأسمالى حتى إنه جرى الاحتفال بثورة أكتوبر الشيوعية فى الجامعة اللبنانية.
بدأ المعسكر الاشتراكى يهيمن على الشارع اللبنانى. فإذا رغبت مصر فى أن تفرض قرارًا على لبنان، اتصل السفير المصرى عبدالحميد غالب بمدير الجامعة العربية شمس الدين الوكيل، فيخرج الطلاب فى مظاهرة تطالب بما ترغب فيه مصر، فتنطلق المظاهرة من حبس الرمل إلى البسطة والمسيطبة حتى يتغير القرار، ويصدر لصالح المعسكر الاشتراكى.
وبعدما خرج الفلسطينيون من الأردن، بسبب أحداث أيلول الأسود وقرارات مؤتمر القمة فى القاهرة. جاء الفلسطينيون إلى لبنان فرجحت كفة الاشتراكيين والمسلمين فى لبنان وتحولت المخيمات إلى معسكرات، داخل لبنان، وأصبحت أشبه بالمستوطنات من غير مبانٍ وعمارات، لكن أنشطتهم بقيت داخل المخيمات، ومع ذلك فقد أزعج ذلك اللبنانيين خاصة المسيحيين منهم.
اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام ١٩٧٥ وأخذت أبعادًا عربية ودولية، بسبب وجود الفلسطينيين المسلح، ودخولهم الحرب، وكذلك التدخل لمنع الفلسطينيين من تحقيق مزيد من السيطرة والنفوذ، وقف السوريون فى بداية الأمر إلى جانب حزب الكتائب، والأحرار فى وجه الفلسطينيين وحلفائهم من اللبنانيين مثل كمال جنبلاط، فطالبوا بالتدخل العربى من مصر وجامعة الدول العربية، مع أنهم يصطفون إلى جانب المعسكر الاشتراكى.
عقد وزراء الخارجية العرب، عدة اجتماعات فى القاهرة فى شهر يوليو ١٩٧٦، فأفضى إلى تشكيل لجنة من لبنان وسوريا ومصر وتونس ومنظمة التحرير الفلسطينية، ثم حلّت ليبيا والسعودية مكان مصر وتونس، كان هدف اللجنة إنهاء النزاع اللبنانى كما كان محور البحث فى كيفية تحقيق الانسحاب السورى من لبنان، وإعطاء ضمانة عربية للفلسطينيين وحلفائهم.
وفى الاجتماع الذى عقد يوم الثلاثاء فى ١٣ يوليو ١٩٧٦، توصل وزراء الخارجية العرب إلى اتفاق على وقف إطلاق النار، والبدء فى إعادة العلاقات السورية الفلسطينية، وتعزيز قوة الأمن العربية، وتقديم الوقود والأدوية والمواد الغذائية من الدول العربية، وتقرير قوة السلام العربية برئاسة اللواء محمد حسن غنيم، فأخذت بالانتشار فى ٢١ يوليو ١٩٧٦ فى بيروت الشرقية وبيروت الغربية، وشكلت نواة لقوات الردع من هذه القوة المحدودة، لكن استمرار المعارك فى كل المناطق، أدى إلى انعقاد مؤتمر قمة فى الرياض حضرته كل من لبنان، بعد أن أصبح إلياس سركيس رئيسًا، والمملكة العربية السعودية والكويت وسوريا ومصر ومنظمة التحرير.
صدر بيان القمة الذى يقضى بتعزيز قوات الأمن العربية، لتصبح قوة ردع تعمل داخل لبنان، تحت إمرة رئيس الجمهورية اللبنانية شخصيًا، وتكون المهمة الأساسية فرض الالتزام بوقف إطلاق النار، وردع المخالف وحفظ الأمن الداخلى والإشراف على سحب المسلحين إلى الأماكن التى كانوا بها قبل ١٣٤١٩٧٥، وتطبيق اتفاق القاهرة مع الإشراف على جمع السلاح الثقيل، ومساعدة السلطة اللبنانية على تسلم المرافق والمؤسسات العامة، وإعلان وقف إطلاق النار، وإنهاء القتال فى كل الأراضى اللبنانية من قبل جميع الأطراف فى صورة نهائية اعتبارًا من ٢١١٠١٩٧٦ صباحًا، ووضع نقاط مراقبة من قوة الأمن الرادعة، بعد إنشاء مناطق عازلة فى الأماكن المتوترة، وسحب المسلحين وجمع الأسلحة الثقيلة وإزالة المظاهر المسلحة وفقًا لجدول زمنى محدد.
كما يقضى البيان بأن يتم تنفيذ اتفاق القاهرة، وخروج القوات الفلسطينية وتأكيد منظمة التحرير الفلسطينية عدم التدخل فى الشئون الداخلية لأى بلد عربى، وفى ٢٥ أكتوبر، عقد مؤتمر قمة عربى فى القاهرة تبنى مقررات قمة الرياض.
كما قضى البيان بتشكيل قوة الردع العربية، وبرغبة من منظمة التحرير الفلسطينية اشتركت قوات من دول عربية، لمنع سوريا من الاستفراد بالوضع، لكن مصر فضلت عدم المشاركة، وبالتالى أصبح العدد الأكبر من قوات الردع من الجيش السورى الذى بلغ عدد أفراده ٢٧ ألفًا، بالإضافة إلى ثلاثة آلاف من الدول الأخرى هى: السعودية والإمارات والسودان واليمن بمعدل سبعمائة فرد من كل دولة، وجرى تعيين العقيد اللبنانى أحمد الحاج قائدًا لقوات الردع.
ظلت الحرب الأهلية فى لبنان من ١٩٧٥ إلى ١٩٩٠ وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن ١٢٥ ألف إنسان، وفى عام ٢٠١٢ كان ما يقرب من ٧٦ ألف مشرد داخل لبنان، ونزوح ما يقرب من مليون شخص من لبنان، نتيحة الحرب. فالخريطة السكانية فى لبنان تؤكد تعدد الطوائف. فالسنة والمسيحيون فيها يشكلون الأغلبية فى المدن الساحلية، أما المسلمون الشيعة فقد كانوا فى الجنوب ووادى البقاع شرقًا، أما الجبال فيمكث فيها الدروز والمسيحيون. لكن الحكومة اللبنانية كات تدار بالنخب المسيحية خاصة المارونيين، وهو ما ارتضاه الاستعمار الفرنسى الذى سيطر من عام ١٩٢٠ إلى عام ١٩٤٣.
بدأ القتال بين الموارنة والقوات الفلسطينية عام ١٩٧٥ وانحازت الجماعات اليسارية والعربية والإسلامية فى لبنان للفلسطينيين، لكن القتال غيّر خريطة التحالفات ولهذا شاركت سوريا القوات الأجنبية وعلى رأسها إسرائيل فى الحرب.
مع تشكيل قوة الردع العربية، اختارت القوات المسلحة السعودية، أن تشكل القوة السعودية من تبوك، وجرى اختيار الجنود والضباط من اللواء الثامن وعين قائد القوة المقدم سعد العشيوى من الرياض، أما مساعد قائد القوة فمن اللواء الثامن بتبوك، ووقع الاختيار على المقدم أنور ماجد عشقى.
كنت سعيدًا بهذا الاختيار، مع أنه فرق بينى وبين أسرتى التى أسكنتها الرياض فى منزلنا هناك، كان النظام يقضى بأن يكون قائد القوة أول من يصل إلى لبنان لاستقبال الجنود وترتيبهم على المواقع المطلوبة، وأن يكون المساعد مع آخر مجموعة تصل إلى لبنان.
كنت سعيدًا بهذه المهمة رغم المخاطر التى كنت أتوقعها لأنى أعرف لبنان، وقد تلقيت دراستى فى القانون فيه بجامعة بيروت العربية.
كنت أعلم أن السياسة العربية تطبخ فى تلك الأيام فى لبنان، والسياسة العالمية تطبخ فى واشنطن. فكنت أتطلع إلى معرفة ما يدور فى الأفق السياسى، كما أن السفير السعودى الفريق على الشاعر، كان قائدى فى المدرسة العسكرية والكلية الحربية، فكنت كلما التقيت به يردد كلمته المعهودة لى «إنى لأعجب من شاب ليست له صبوة».
وعندما بدأ دور المملكة يتنامى فى العالم العربى، ويلقى العرب والمسلمون بأعبائهم عليها ويطالبونها بالمساعدة على حل أزماتهم، قال الفريق على الشاعر للملك فهد رحمه الله «جاءتنا ريح فدفعت بنا إلى المسرح، فإما أن نجيد الدور أو أن نسدل الستار»، فقال له الملك فهد: بل نجيد الدور ونتحمل مسئولية الأمتين العربية والإسلامية.
فى أواخر نوفمبر من عام ١٩٧٦ غادرنا على طائرة «c١٣٠» ناقلة الجنود إلى بيروت. كان قائد القوة فى استقبالنا، فأرسل الجنود إلى معسكر خلدة بشاليهات مروش، فصحبت القائد فى سيارته الجيمس المغطاة إلى القيادة. كان وصولنا إلى المطار الساعة الخامسة مساءً، وفى طريقنا إلى المعسكر مررنا بنقطة تفتيش سورية، فأطلقوا علينا النار من خلفنا، وتوقف القائد وجاء الجنود إليه واعتذروا، لقد كان عملًا استفزازيًا وخطيرًا. وصلنا إلى القيادة فى خلدة، وبعد أن رتبنا جنودنا ذهبنا إلى السكن فى عمارة على الروشة يملكها أحد السعوديين هو الشيخ عبدالوهاب عرب.
صباح اليوم الثانى انطلقت ومعى أحد الجنود إلى زيارة للنقاط التى كلفنا بها. كان أول المواقع هو مقر القيادة فى خلدة، وأخذت معى من يدلنى على المواقع فى الساحل والجبل.
كانت أول نقطة أزورها هى الكارلتون على الروشة، وكان جنودنا يقيمون فى مبنى لم يشطب، يطل على شارع الروشة ومدرعة سعودية يقف عليها الجنود يراقبون حركة السير وهى تسير فى أمن وهدوء، ثم اتجهت إلى فندق الكارلتون، فاستقبلنى المدير فى مقر الاستقبال، فوجئت أنه يقول أهلًا بالمقدم أنور، فوجئت بأنه عرف اسمى.
سألته عن الجنود، وهل يتسببون بإزعاج، فشكرهم وأثنى عليهم، وقال إن ضابطًا من الاستخبارات السعودية يسبب لنا بعض الفوضى فى الفندق، فقلت له لا يوجد ضابط استخبارات، وإذا كان هناك ضابط فسوف أنزل به أشد العقوبات، أخذنى إلى غرفة وفتحها فلم نجد بها أحدًا، وسرعان ما جاء من يدعى أنه ضابط استخبارات سعودى حاول تهدئتى، فقلت له قل لى من أنت فتلعثم.
أمرت قائد الفصيل أن يفتشه، فوجدت لديه ثلاث بطاقات أولاها أنه ضابط فلسطينى وبرتبة ملازم، والثانية سائق تاكسى والثالثة إسرائيلى من مواليد بئر السبع، على التو بعثت به إلى الردع السورية إلى قسم المخابرات، موضحًا لهم أمر الرجل وأن الشبهة هى أنه جاسوس إسرائيلى.
مررت على النقاط السعودية كافة، وفى كل موقع أجمعهم وأوجههم بالمعاملة الحسنة للإخوة اللبنانيين وأوصيهم بعدم المعاصى، لأن عمر بن الخطاب كان يقول لقادة الجند إن الجيوش لا تؤتى إلا من معاصيها.
ظللت كل يوم أقوم بتفقد أحوال الجنود والنقاط، وأوصيهم باليقظة والاهتمام، وفى اليوم الثانى ذهبت إلى القيادة فى خلدة، ووجدتهم يصلون مجموعات، فأخذت أحد الصوالين وجهزته للصلاة جماعة، وأوكلت بهم حارس الفندق للصلاة بهم إمامًا وكان حافظًا للقرآن.
وضعت فى جيب الحارس بعض المال فقال لى: أريد أن أسدى إليك معروفًا، قلت: ماذا؟، قال هل علمت أن الله قد أظهر على رأس هذا القرن من يجدد للأمة أمر دينها؟، فقلت: لا أعرف، قال: ظهر، قلت: من؟، قال الشيخ عثمان سراج الدين، قلت: ومن عثمان سراج الدين؟، قال هذا قطب الغوث للطريقة النقشبندية ومقره فى سنتنداج بكردستان إيران.
ثم عقب قائلًا: إذا أردت فسوف يحضر إليك الليلة فى غرفتك، قلت: أعوذ بالله وكيف ذلك، قال: لقد حضر لطلب القوة. لم أكن أعرف ما الصوفية ومن هو قطب الغوث وما مراتبها.
ذهبت إلى الطبيب وسألته فقال: جاءنى وقضى لى حاجاتى. وطفقت أسأل عن الصوفية حتى عرفت الكثير عنها وعن مراتبها وطقوسها وتقاليدها، فوجدت الفارق بين السلف والصوفية، لكنى لا أحب أن أعيب على أحد فكره وطريقته، لكنى أسمح لنفسى أن أستمع وأناقش وأحاور.
إن اشتراكى فى قوات الردع، قد أحفى علىّ بالكثير مما لم أكن أعرف، ليس من باب السياسة، فحسب بل من جانب الدين والثقافة وغير ذلك، لكنى لا أحب أن أخرج عن المعقول حتى لا أخرج عن الكتاب والسنة.