رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحياة بمدينة تبوك


انتقلت إلى تبوك، وهى مدينة تقع على الشمال الغربى من المملكة العربية السعودية، تحدها المملكة الأردنية الهاشمية من الشمال، ومن الشرق منطقة الجوف، ومن الجنوب منطقة المدينة المنورة، أما من الغرب فخليج العقبة والبحر الأحمر، وهى مدينة استراتيجية زاد من أهميتها الاستراتيجية أنها دخلت اليوم فى مشروع نيوم الذى يجسد الذكاء الاصطناعى، والذى سوف تشارك فيه الأردن ومصر، وسوف يزيد من أهميتها جسر الملك سلمان الذى سيربط بين المملكة العربية السعودية ومصر الشقيقة.
لتبوك أهمية كبرى فى التاريخ، لأنها استقبلت النبى صلى الله عليه وسلم فى آخر غزواته التسع التى شارك فيها وبها من الآثار الإسلامية الكثير، منها العين التى فاضت بالماء من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما وصلها وجد المسلمين يزيحون عنها الرمل ليخرج الماء فسألهم قائلًا: ما هذا الذى تبكونه؟ فسميت تبوك.
وجدتها مدينة هواؤها عليل، وشتاؤها ثقيل، وصيفها معتدل، وأهلها كرام، سكنت مع أسرتى فى المدينة العسكرية، كلفت خلالها بمهام عدة، مثل الشئون العامة فى المنطقة، وإدارة نادى الضباط، ونادى ضباط الصف، وأخيرًا عينت مديرًا للمستشفى العسكرى بمدينة تبوك والمستشفى العسكرى داخل المدينة العسكرية.
كلفت فى أحد الأيام بأن أذهب لمثلث الشرف، وهو موقع على الطريق إلى حقل قريب من مدينة العقبة ويقع المثلث فى المنتصف، ومن المثلث يمتد طريق يسير غربًا إلى الشيخ حميد على خليج العقبة يطل على جزيرتى صنافير وتيران اللتين سوف يمتد الجسر بينهما وبين تبوك حتى شمال شرم الشيخ بعشرة أميال.
فى منتصف هذا الطريق قرية تسمى البدعَ بفتح العين، وهى جزء من مدين، وفى القرية شاهدت آثارًا لم أتوقعها مع أنى قرأت كعادتى كتابين عن المنطقة، ومن أهم هذه الآثار البئر التى سقى منها الماء سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام لابنتى شعيب، ووجدت أن بها ماء حتى اليوم مع أن البحيرات والأنهار جفت وهذه لم تجف.
بجوارها كانت ترتفع قبة، نظرت إليها فوجدت فى سفحها قطعًا من الفخار، وهذا دليل على وجود الآثار، فصعدت القبة ومعى بعض الجنود وأدوات الحفر إلى أعلاها فوجدت بقية جدار، فعلمت أن زلزالًا أصابها، فهدمت المبانى من جرائه والله عز وجل يقول عن مدين فى كتابة العزيز (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ).
وجدت أثناء الحفر أقمشة ملونة منسوجة نسجًا جميلًا تذوب إذا أمسكت بها، ففضلت أن أحفظها فى البلاستيك الحرارى، ثم ذهبت إلى قبة أخرى وقد انهار جانب منها، فوجدت هياكل عظمية معلقة بسقفها منها ما هو واقف ومنها ما هو جالس أو نائم.
أخذونى إلى المكان، وجدته مكانًا للتحنيط تمامًا كما شاهدناه فى المتاحف المصرية، وتذكرت أن سانت جون فيلبى قال فى كتابه عن شمال غرب الجزيرة إن بيت شعيب الرجل الصالح لا تزال آثاره باقية، فسألت عنه فأخذونى إليه، وسرت فى الطريق الذى سار فيه سيدنا موسى إلى بيت شعيب، ومن خلفه كانت تسير صفورية بنت شعيب، حتى وصلت الدار ووقفت على ما بقى منها.
تابعنا سيرنا غربًا حتى وصلنا إلى الشيخ حميد، ونظرنا إلى صنافير وتيران، وهما جزيرتان تتحكمان فى خليج العقبة، عُدنا أدراجنا إلى مثلث الشرف، وقبل أن نصل كان إلى جوارنا جنوبًا جبل اللوز، وهو جبل أسود يكسوه الوقار، فسرت فى السفح الذى كان سيدنا موسى يرعى شويهات شعيب فيه عشر سنوات كمهر لابنته.
لقد كانت رحلة تاريخية مثمرة، واليوم ضرب على هذه الآثار سور من الأسلاك الشائكة لحمايتها فقد نهب بعضها، أما سانت جون فيلبى، فقد كان لديه الوقت الكافى إذ صعد إلى جبل اللوز، وأطل منه على العقبة ووضع ما حمله من آثار خبأها فيه، ولما عاد فى جوله ثانية، وجد أن هذه الآثار قد أخذها أحد المكتشفين السعوديين من شرق الجزيرة العربية. فمنذ أربعين سنة لم يكن ينزل الثلج على هذا الجبل، لكن اليوم تغيرت الأجواء، وأصبح يغطى فى الشتاء بالثلج. كان عملى فى تبوك مثمرًا، فقد اكتسبت معرفة بالمنطقة والآثار التى فيها كما أنى أتممت دراستى فى الحقوق منتسبًا إلى جامعة بيروت العربية، وعندما شبّت الحرب الأهلية فى لبنان أديت الامتحان النهائى بجامعة الإسكندرية، قضيت أيامها مع أهلى فى شقة مطلة على البحر الأبيض المتوسط الذى يغسل شواطئ قارات ثلاث تمثل العالم القديم وتضم ثلاثة أرباع سكان العالم، وثلاثة أرباع الموارد الأولية والطاقة النفطية.
ظللت فى تبوك ثلاث سنوات كانت مليئة بالمكاسب مفعمة بالتجارب، وفى السنة الثالثة عادت قواتنا السعودية من سوريا، واستعرضت أمام الأمير سلطان رحمه الله، واستلم قيادة المنطقة اللواء شحات بصرى الذى كان قائد اللواء فى سوريا.
وبعدها تقرر أن تتشكل قوات من تبوك لتذهب إلى لبنان، لتنضم إلى قوات الردع العربية وتضبط الأمن، فقد كانت تشارك فيها إلى جانب القوات العربية، قوات من سوريا وقوات من الإمارات وقوات من السودان، وعينت مساعدًا لقائد القوات السعودية، ونقلت القوات تباعًا بطائرات السلاح الملكى السعودى، ولأنى مساعد لقائد القوة كان لا بد أن أكون مع الدفعة الأخيرة.
تم نقل القوات السعودية جوًا بنجاح، أما المعدات الثقيلة فقد نقلت برًا، اقتضى منى ذلك أن أبعث بأسرتى إلى المدينة المنورة، وأرحل إلى لبنان مع باقى القوات السعودية.
فى تبوك رزقنا الله بالابن صداح الذى أصبح فيما بعد دكتورًا متخصصًا فى الغذاء العلاجى، فقد ولد بمستشفى المدينة العسكرية الذى تديره شركة ويتكر، وكنت أشرف عليه، ولد فكان أول مولود فى المستشفى، لأن قسم الولادة فتح متأخرًا، وكان الطبيب فيرنر الإنجليزى، فذهبت لأحضر لوازم الطفل قبل أن يولد، ولما وصلت سمعت صراخًا، فقابلنى الدكتور فقلت ما هذا الصراخ؟، قال: هذا صوت ابنك فأطلقت عليه اسم صداح. إن الزمان ليس عادلًا، فالمكاسب والإنجازات لم أكن وحدى فيها، بل كانت زوجتى التى صبرت على الانتقال من بلد إلى بلد، ومن غربة إلى غربة، فلم تكن تجعلنى أشعر بالوحشة ولا بالضجر، بل كانت تزين لى الحياة بابتسامتها وفرحتها وتشجيعها، لهذا لم أكن مبالغًا فى الثناء عندما قلت فيها ديوان شعر كاملًا، ولم أكن متجملًا عليها عندما كتبت فيها فيما بعد قصيدة نشرت فى الأهرام بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على زواجنا، حقًا لقد ولدت يوم تزوجتها، وسعدت يوم ارتبطت بها، من ليس له زوجة صالحة فلن ينجح، فالزوجة الصالحة حياة، ومن لا زوجة له فهو بلا حياة.