رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من الحياة التعليمية إلى الحياة العملية


كان يوم التخرج فى الكلية الحربية يومًا مشهودًا، وكان الاحتفال بميدان الكلية الحربية يومًا موعودًا، أقسمنا فيه على الطاعة لله والوطن، وتشرفنا بالسلام على الملك سعود بن عبدالعزيز الذى فضل أن يسلمنا الشهادات بيده، وألقى فينا كلمة حدد فيها واجبنا وذكرنا بأننا يجب أن نكون ذخرًا للوطن وللأمتين العربية والإسلامية وأوصانا بتقوى الله فى السر والعلن.
كانت مدينة الخرج من نصيبى وزملائى، وصلنا إليها بعد الإجازة وقد تجمعنا وكنا اثنى عشر ضابطًا فى بيت واحد للعزاب، كان أهل الخرج كرامًا فوق التصور، يأتينا منهم اللبن صباح كل يوم، ونؤدى الصلاة خمس مرات مع الجماعة فى المسجد المجاور.
وزعنا قائد المنطقة على الوحدات، كانت الوحدة التى عينت فيها اللواء الثامن بالفوج الثالث، وكان هذا اللواء هو الذى دخل الكويت، وحررها من قوات صدام حسين، لم أكن معهم، فقد كنت أعمل باللجنة الخاصة بمجلس الوزراء، لكن قائد اللواء احتفظ لى بهاتف ميدانى كان من الغنائم ما زلت أحتفظ به وأعتز به.
أما الكتيبة فكانت الثالثة، وهى التى شاركت فى قوات الردع وساهمت فى إيقاف الحرب الأهلية بلبنان، وكنت مساعدًا للقائد بعد ثمانية عشر عامًا. فكانت من أهم التجارب العسكرية والسياسية، فقد وجدت نفسى فى لبنان يوم كانت السياسة العربية تطبخ فيها.
كما كانت هذه الكتيبة هى التى شُكلت منها القوات السعودية التى كانت تعمل مع قوات الجامعة العربية، شاركت فيها برتبة ملازم أول فى الوقوف أعلى الحدود بين العراق والكويت، يوم كان عبدالكريم قاسم يهدد ويتوعد بضم الكويت بالقوة.
ذهبنا للكويت بدلًا من القوات البريطانية، يوم رفض الاتحاد السوفيتى الاعتراف باستقلال الكويت، بل سحب اعترافه عندما جاءت القوات البريطانية لتحمى الكويت من الهجوم العراقى المتوقع، وبطلب من الملك سعود والرئيس جمال عبدالناصر رحمهما الله، اتفقا على أن تحل قوات من الجامعة العربية محل القوات البريطانية التى انسحبت من الكويت.
كانت قيادة قوات الجامعة للواء عبدالله العيسى الذى أصبح فيما بعد رئيسًا للأركان بالمملكة العربية السعودية، وكان يساعده العميد خالد الصحن من الأردن الشقيق، كما بعث الأردن بكتيبة عسكرية لتتبادل المواقع مع الكتيبة السعودية فى تسلم الجبهة، كما أرسلت المملكة كتيبة مدرعات بقيادة العقيد عبدالله آل الشيخ الجهنى الذى أصبح فيما بعد مديرًا للأمن العام.
وانضمت إلى القوات السعودية سرية سودانية، أما قوات الجمهورية العربية المتحدة فقد كان اهتمامها فى هندسة الميدان والجوانب الفنية، وانتشرت القوات على كامل الحدود بين العراق والكويت من أم قصر شرقًا إلى مطربة غربًا، كما كانت القيادة مستقرة فى الروضتين.
كان ركن العمليات من السودان، وكان يتولاها العميد أحمد شريف، وخلفه فيما بعد من السودان العقيد حسن الفحل، ظللنا سنتين فى الكويت نتبادل المواقع مع القوات الأردنية، إذا أخذنا الراحة عدنا إلى مدينة الكويت بمعسكر «G-١جيوان» نتلقى التدريبات ونسلم أنفسنا للراحة.
كنت وزملائى حديثى عهد بالعمل الميدانى، وكان معظمنا برتب صغيرة، ولم تتجاوز الأغلبية العشرين من العمر، لكنا كنا شغافًا بالقراءة. فلدينا المزيد من الوقت، كنا نرتاد مكتبة الأندلس، وإذا قرأنا تحاورنا فى كثير من المواضيع التاريخية والدينية والعلمية.
كلفت بتغطية منطقة أم قصر، وهى لا تتجاوز العشرين كيلو من المترات بطول الجبهة، كانت تقع على الخليج، لكن الماء كان غائرًا عن الأرض، وكثيرًا ما كانت تنشب بيننا معارك تليفونية مع العراقيين، والتشويش على الرسائل اللاسلكية، لكنى كنت أتدخل بإفهام العراقيين أننا لسنا أعداء، بل نحن من الجامعة العربية، عندها تتوقف تلك المعارك.
أبلغنا أن أمين عام الجامعة العربية عبدالخالق حسونة، سوف يزورنا مع قائد القوات وقائد الكتيبة، فوجئ الأمين العام بأنى قد جمعت الأفراد، ثم تقدمت إليه بعد أن حطت الطائرة الهوائية على الموقع، بينت له المهمة، وعرضت عليه الموقف، فسألنى عن المعنوية، فقلت: حتى الآن حسنة، فقال: لماذا حتى الآن؟ قلت: لأن الإجازات لم تفتح بعد، وقد قضينا فى الخطوط الأمامية أكثر من أربعة أشهر، فتوجه إلى قائد القوات وأمره بفتح الإجازات.
نقلت بعدها لأكون قائدًا لمنطقة مطربة، وهى صحراء قاحلة تسفيها الرياح وتنتشر فيها الثعابين، فقد قتلنا فى ليلة واحدة فى خيمة اللاسلكى ست عشرة حيّة، كما شاهدت أثناء تجوالى على النقاط جثثًا بشرية تهب عليها الرياح، لقد ماتوا فى هذه الصحراء عطشًا، فأمرت من معى بدفنهم.
بعد عامين استبدلنا بغيرنا من القوات السعودية، ونقلنا إلى الطائف، وكانت ثورة اليمن قد اندلعت، وما هى إلا شهور وانتقلت بعدها إلى المدينة المنورة، وكنت قائدًا لفصيل القيادة، وهذا مكننى من لقاء رؤساء الدول الذين يزورون المسجد النبوى ويسلمون على سيد البشر، كنت أدلف معهم إلى داخل الحجرة النبوية.
لا يمكن لإنسان أن يصدق الشعور الذى كان ينتابنى وأنا فى الحجرة، لقد كنت أستشعر أنى وسيد البشر فى حجرة واحدة، ومعنا أبوبكر وعمر رضى الله عنهما، لقد كان شعورًا لا يوصف، شعورًا تخشع له القلوب وتذرف له الدموع.
كان عملى فى المدينة المنورة ست سنوات قضيتها أفضل أيام حياتى، حققت فيها إنجازات كبيرة، عمقت فى نفسى المعرفة الدينية من خلال صلاتى وزياراتى للمسجد النبوى واستماعى لعلماء لم يتسن لى الاستماع إليهم مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطى صاحب «أضواء البيان فى تفسير القرآن بالقرآن»، وصداقتى معهم مثل الشيخ حماد الأنصارى، الذى يعتبر المرجع الأول لعلم الحديث فى هذا العصر.
كل ذلك حفزنى إلى مواصلة دراستى الجامعية، فأنهيت دراستى الثانوية، وبدأت فى الدراسة الجامعية، كما مكننى العمل فى المدينة المنورة من البقاء مع الأسرة والاهتمام بشئونهم، حتى وافت والدى المنيّة ودفن ببقيع الغرقد.
لقد تعرفت عن قرب ببعض رؤساء الدول مثل الملك حسين والحبيب بورقيبة وشاه إيران، ورؤساء بعض الدول الإفريقية والآسيوية والإسلامية، ولى مع كل منهم وقفات استطعت من خلالها أن أتعرف على شخصياتهم عن كثب.