رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من المدرسة العسكرية بالمدينة المنورة إلى الكلية الحربية بالرياض


انتقلنا إلى كلية الملك عبدالعزيز الحربية بالرياض ولم أبلغ سن المراهقة بعد. كانت الفوارق كبيرة بين المدرسة العسكرية والكلية الحربية. فالثقافة تختلف بين الحجاز ونجد ولم يكتمل تفاعلها بعد. وفارق السن مختلف بينى وبين طلاب الكلية الحربية. لكن طول قامتى كان يشفع لى. كذلك الفارق فى التحصيل العلمى والعلوم التى تلقى علينا.
كان الفارق العسكرى كبيرا. فالطلاب موزعون إلى سرايا وفصائل. وكل فصيل يضمه مبنى مستقل يقال له حظيرة. كنا نفيق على صوت البوق النحاسى الذى يطلقون عليه البروقى وكانت الأصوات مميزة. إذ إن صوت التجمع فى الميدان يختلف عن إيقاظ الطلاب أو التحرك إلى الصلاة فى المسجد الذى يقع فى الجانب الغربى من ميدان التدريب، بينما فصول التدريس تقع شمال الميدان. فكانت الانطلاقة دائمًا من الميدان سواء للطعام أو للفصول الدراسية أو للتدريب، إلا الصلاة. أما إدارة الكلية فكانت تقع على الشرق من الميدان. وكان قائد الكلية وقتها العقيد محمد صالح البلاع، الذى كان يتسم بالهدوء والسكينة. بينما كان كبير المعلمين النقيب أسعد سلامة. أما قائد سريتنا فكان حمود الخلف. أما المعلمون فكانوا ينقسمون إلى قسمين عسكريين ومدنيين. فالعسكريون يتولون المواد العسكرية والتدريب والمناورات. والمدنيون يتولون دراسة المواد المدنية.
ومراحل التعليم نجدها ثلاثًا الإعدادى والمتوسط والنهائى، وكان معظم المعلمين والمدربين من المصريين. بينما المدرسون المدنيون كانوا خليطًا من السوريين والمصريين والسعوديين. وكان كبير المعلمين المدنيين الأستاذ محمد سليمة. الذى ظل فى الكلية سنوات طويلة.
كنا ندرس القانون العسكرى والاقتصاد العسكرى وهندسة السيارات وهندسة الميدان والتكتيك والطبوغرافيا والتاريخ العسكرى وعلم النفس العسكرى. كما كنا نتعلم ونتدرب على الأسلحة الخفيفة، تفكيكًا وتركيبًا واستعمالًا. وكان من الدروس ما هو ميدانى وما هو نظرى، بالإضافة إلى الدروس المدنية.
كنا إذا غاب المدرس نلتزم بالبقاء فى الفصل. وكان العريف يقترح أن يلقى أحدنا محاضرة حرة. وقد ألقيت وقتها أول محاضرة فى حياتى، فكانت عن القنابل الذرية تكوينها وفاعليتها، فقد أخبرتهم أنها إذا انفجرت أصدرت أربعة من أنواع الدمار، الصوت والطاقة التدميرية واللهب والإشعاع. وذكرت وقتها أن أشعة ثلاثية تصدر منها هى ألفا وجاما وبيتا، وكل من هذه الإشعاعات بينت فاعليتها والوقاية منها. لم أتصور أننى فى سن الرابعة عشرة ألقى محاضرة مثلها. فقد اعتمدت فيها على عدة مراجع، وضربت خلالها مثلًا بهروشيما ونجازاكى، وهما أول وآخر استخدام للقنابل الذرية فى الحروب. فى ذلك العام حدث العدوان الثلاثى على مصر الشقيقة. وفتحت المملكة باب التطوع. وكان المتطوعون يتدربون فى ميدان الكلية الحربية. فكان منهم الأمراء وأبناء الشعب. وكان من الأمراء الملك فهد بن عبدالعزيز والملك سلمان بن عبدالعزيز والأمير تركى بن عبدالعزيز والأمير أحمد بن عبدالعزيز. لقد كان الشعب السعودى يغلى من هذا العدوان. والكل يرغب فى أن يذهب ويحارب فى صفوف إخواننا المصريين. كنا نتتبع أخبار الحرب. ومن يومها بدأنا فى الاهتمام بالسياسة. لكن اقتضى الموقف أن يعود المدربون المصريون إلى مصر فاستعاضت القوات المسلحة بمدربين سعوديين، مدنيين وعسكريين، لكن بعض المدرسين المصريين ظلوا يقدمون لنا الدروس، ولا أنسى صلاح الدين حلاوة الذى كان يأتى إلى الفصل ويلقى محاضرته فى القانون بأدائه الجيد ولغته العربية الصافية وبزته البيضاء الناصعة وقوامه الممشوق. لقد حبب إلينا دروس القانون.
لقد تم العدوان الثلاثى من قبل ثلاث دول هى بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وانتصر الشعب المصرى عليهم. كان أنتونى إيدن، رئيس وزراء بريطانيا، هو مهندس العدوان الثلاثى على مصر. فقد كان يغلى حقدًا على الرئيس جمال عبدالناصر، وكان يعتقد أن العدوان سوف يتسبب فى أن يتخلص الشعب من عبدالناصر، معتمدًا على تقارير خاطئة وصدَّق نفسه فكان العدوان خزيًا عليه وعلى فرنسا وإسرائيل.
كانت الحرب حرب أحقاد. لأن عبدالناصر أمم قناة السويس، وأدارها الطاقم المصرى بجدارة. وكان المهندس محمود يونس هو قائد اقتحام الشركة الأجنبية. ورئيس هيئة قناة السويس والمكلف بإدارتها. كان تأميم قناة السويس يمثل ردًا على سحب الولايات المتحدة تمويلها لبناء السد العالى بطريقة مهينة. فكان التأميم بغرض تحرير القناة والاستفادة من دخلها فى بناء السد العالى. وجاء سحب التمويل نتيجة شراء عبدالناصر السلاح من الاتحاد السوفيتى.
لقد تداعت الأحداث التى تؤكد أن الأحقاد يجب ألا تكون عاملًا لارتكاب أعمال سياسية خاطئة. واليوم تغيرت الأحوال وأصبح التخطيط هو الأساس، والحوار مع الأعداء هو الذى يصنع السلام. بدأت الفوضى تدب فى الكلية الحربية. فعين المقدم على حسن الشاعر قائدًا للكلية الحربية. كان على الشاعر إلى جانب حفظه القرآن الكريم ونزاهته يتمتع بشخصية «كاريزمية»، كما كان خطيبًا مفوهًا تلقى تعليمه فى الكلية الحربية بمصر يوم كان جمال عبدالناصر كبيرًا للمعلمين.
استطاع الشاعر أن يملأ الفراغ بعد رحيل العسكريين المصريين. وقد نجح فى إعادة تنظيم الكلية. لم أكن من الأوائل فى الفصل بل فوق المتوسط. فقد كنت أقضى معظم وقتى بالقراءة. وكنت شغوفًا بالعلوم الدينية والتاريخية.
كان كل شىء فى الكلية يتم بالأوامر حتى الصلاة فى المسجد. وكنا إذا بدأنا الطعام أحيانا يأمرنا المسئول بالتوقف. ونظل عشر دقائق دون حراك والطعام أمامنا واللقمة فى فمنا ولا نتحرك حتى يأمرنا باستئناف الطعام. لكن هذه الأشياء هى التى علمتنا الانضباط. فى كل عام نمنح إجازة سنوية لمدة شهر من الزمان نقضيها مع الأهل. كنت أقضيها مع الوالد والوالدة فى المدينة المنورة. لقد كنت أدرك أن والدى قد ضحى فى سبيل مستقبلى ومستقبل الأسرة بأن سمح لى بالغربة والبعد عنهم. حيث كنت الابن الأكبر وكان هو طاعنا فى السن. كانت نظرته مستقبلية يريدنى أن أعود بعد التخرج وأتحمل أعباء الأسرة وإخوانى الصغار. أكملنا دراستنا المدنية والعسكرية. وكان لا بد فى النهاية من تدريب شاق وخطير هو تطعيم المعركة. فى هذا التدريب نجتاز الموانع زحفًا وقفزًا وهرولة والرصاص الحى من حولنا. كانت الطلقات على مسافة قدم من أقدامنا. لو تعجلنا لأصابتنا. ولو تأخرنا أصابت أعقابنا. ومن بين الموانع القفز فوق بحيرة صغيرة مائية بها متفجرات. إذا سقط أحدنا انفجر فيه أحد الألغام. وكان التفجير من نصيب زميلى موسى الطاسان، الذى انفجر فيه اللغم المائى ونقل للعلاج فورًا إلى لندن. وهناك من أصيب فى قدمه فأخلى إلى المستشفى ومنهم من أصابته طلقة فى ظهره أثناء الزحف تحت الأسلاك الشائكة.
لقد كان اختبارًا صعبًا ومخيفًا فى نفس الوقت. بعد شهر أعد لحفل التخرج. فكانت فرحتنا عظيمة. حضرها الملك سعود وسلمنا الشهادات والرتبة العسكرية «ملازم ثانٍ» بنجمة واحدة. من يومها شعرت بأن رأسى أصبح فوق النجوم.
بعدها جرى توزيعنا فى الوحدات العسكرية. فكان الخرج من نصيبى وبعض زملائى. وبعد إجازة قضيناها مع الأهل حضرنا إلى الخرج. لقد عقد قرآن شقيقتى الكبرى يوم تخرجى. فلم أتمكن من الحضور لكنى حضرت بعدها فهنأتها.
كانت فرحة والدى كبيرة. لكنه لم يكن يعبر عن ذلك بشكل انفعالى، كان كثير الصمت. لا يجادل ولا يكابر ولا يعاند. بل كان يحسم النقاش. فى تلك الإجازة كان عيد الفطر فجاءنا للتهنئة اثنان، العم أحمد حكيم والدكتور عصام خوقير وعدد من الأصدقاء والجيران.
دار الحوار حول تعليم المرأة. فقد كان العم أحمد لا يحبذ تعليم المرأة، بينما الدكتور عصام خوقير يؤيد تعليمها بشدة واحتدم النقاش، كل يدلى بحجته. فاستشهد الدكتور عصام بقول الشاعر حافظ إبراهيم فى قصيدته العلم والأخلاق «الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق». فرد عليه العم أحمد قائلًا: أتعلم ماذا تفعل البنت إذا تعلمت؟ إنها إذا تعلمت فسوف تكتب خطابًا لحبيبها. عندها تدخل الوالد فقال: يا سيد أحمد. البنت التى تسمح لها تربيتها بكتابة رسالة إلى حبيبها، إذا لم تتعلم فستذهب إليه بنفسها، وهنا انتهى النقاش.
وفى المساء جاء للمعايدة بعض أصدقاء الوالد، وجاء معهم للمعايدة السيد ولى الدين أسعد. فتكلم ولى الدين أسعد قائلًا إن السلفيين لا يحبون آل البيت وساق على ذلك بعض الأدلة. فرد عليه الوالد، الذى كان حينها يميل إلى مذهب السلف، فقال له: ما هو مذهبكم ؟ فقال: الحنفى. قال الوالد: فى التشهد الأخير لدى الأحناف الصلاة على آل البيت سنة، يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها. لكنها عند الحنابلة واجب، لا تصح صلاة من لم يصل على آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا كان والدى يحسم النقاش بالضربة القاضية وهو ما كان يمتاز به.
لقد بلغت سن الرشد قبل التخرج بستة أشهر، وكان تخرجى عام ١٣٧٨ للهجرة وبهذا دخلت مرحلة جديدة فى الجانب البيولوجى والجانب الفكرى والجانب العملى. فقد بدأت حياتى العملية بمدينة الخرج.
فمدينة الخرج إحدى أهم المحافظات فى المملكة العربية السعودية. تقع جنوب شرق مدينة الرياض، وفيها المصانع الحربية. ومشروع السهباء للألبان والأبقار. وتعنى كلمة الخرج الوادى الذى لا منفذ له، وهى مدينة قديمة عاشت فيها قبيلتان من البائدة هما طسم وجديس تغنى بها الشعراء قبل الإسلام.
وتتمتع الخرج اليوم بأهمية استراتيجية، فمدينة السيح عاصمة الخرج وحاضرتها. وهى مركز اقتصادى يزيد سكانها على ٣٧٦ ألف نسمة. وتتمتع بقوة جذب استثمارية. وتخزن فى باطنها موارد طبيعية. وتحتضن العديد من المنشآت الاقتصادية والحكومية، وأبرزها المصانع العسكرية الوحيدة فى الشرق الأوسط، كما تضم قاعدة للإمدادات والتموين الرئيسى للقوات المسلحة، كما بها قاعدة الأمير سلطان الجوية التى تعتبر واحدة من أكبر القواعد الجوية فى العالم.