رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانخراط فى السلك العسكرى


كان اثنان من أبناء عمومتى يعملان فى السلك العسكرى، أحدهما خاض حرب فلسطين والآخر تقلب فى الوحدات العسكرية، الأول الرئيس عبدالغنى عدنان عشقى فقد كان له الدور الأكبر فى تأسيس سلاح الإشارة، والثانى أخوه غير الشقيق أنور عدنان عشقى اختطفته الوحدات العسكرية ولم أعلم وقتها الكثير عنه.
كانت قصص عبدالغنى فى فلسطين، بالإضافة إلى إعجابى بحسن قواص قائد المعسكر بالمدينة، تجتذبنى نحو السلك العسكرى فقررت أن أنخرط فيه، وكان الوالد، رحمه الله، يشجعنى بعد أن اتصل به على الشاعر وأقنعه بأن ألتحق بالمدرسة العسكرية.
كان على الشاعر قائدًا للمدرسة بالمدينة المنورة، وكانت المدرسة تؤهل الطلاب للالتحاق بالكلية الحربية بالرياض، عندها كلف والدى الأستاذ توفيق الأيوبى، وهو أحد المدرسين بمدرسة النجاح أن يتولى أمر التحاقى بالعسكرية.
أعد الأستاذ توفيق كل الشروط، لكنه اصطدم بالسن، فقد كنت فى الثالثة عشرة من العمر، ومدير الجوازات العم أسعد طرابزونى مع أنه قريب لنا لم يوافق على إصدار حفيظة النفوس حتى أبلغ السادسة عشرة من عمرى.
لم تعتمد المملكة فى ذلك الحين شهادات الميلاد، فالأعمار يحددها الآباء، لهذا قرر مدير الجوازات أن يحدد السن من قبل الأطباء، فبعثنى إلى مستشفى باب السلام الذى كان يجاور المسجد النبوى.
ذهبنا إلى الطبيب الذى رأى أن بنيتى قوية ووجه إلىّ بعض الأسئلة فأعجبه ما أجبته به، ثم طلب منى أن أكشف سوأتى من الأمام، فأسدلت اللباس فلم يجد شعرًا فى العانة، فقال لى بأنى فى الثالثة عشرة عندها رجوته أن يساعدنى فكتب إلى الجوازات بأنى فى السادسة عشرة من العمر، والتحقت بالمدرسة العسكرية.
تآلفت مع زملائى فى المدرسة ولم أأتلف مع الحياة العسكرية لما فيها من قيد على الحريات، لكن عزائى كان فى الأصدقاء، وكنت فى الصف الثانى متوسط وكان أعلى الفصول فى المدرسة، وجاء الامتحان فكنت الثانى، وكان من المعتاد أن الأول يكون مسئولًا عن جميع الفصول، ومن حصل على المرتبة الثانية أن يكون قائدًا للفصل الذى يعمل به.
لم يضعونى مسئولًا بل وضعوا من بعدى، لأنه كان أكبر منى سنًا وأجش منى صوتًا، وهذا ما يتطلبه إصدار الأوامر العسكرية، ويعرف بالإيعاز، عندها حاولت التمرد وحرضت الأصدقاء أن يخالفوا الأوامر العسكرية كى نظهر فشل من وضعوه قائدًا للفصل.
رفعت الشكوى إلى مساعد قائد المدرسة، وكان فى كل يوم قبل أن نذهب إلى المعسكر للمنام فى ضواحى المدينة يقف أمامنا القائد أو مساعده ليوجه لنا كلمة فى الأخلاق والسلوك والانضباط.
كان مساعد القائد الملازم عبدالقادر، وكان شديدًا فى العسكرية، فكهًا مع أصدقائه، فقال لنا بأن هناك طلابًا كانوا يعصون الأوامر، ويوم الخميس سوف يعرضون على مكتب القائد، فإن شاء عاقبهم وإن شاء عفا عنهم، لكنهم فى كلتا الحالتين يتوقفون يوم الخميس ولا يذهبون إلى أهليهم فى الإجازة، وقع هذا الخبر وقوع الصاعقة علينا.
حملتنا الحافلات إلى المعسكر وجاءنى زملائى يعتبون علىّ بأنى السبب فى تعرضهم لهذا الموقف، قلت لهم: لا تقلقوا فسوف أحل المشكلة، ظللت طوال الليل أفكر فى المخرج من هذه الأزمة، وفى الصباح وبعد أن أدينا الطابور الصباحى، حملتنا الحافلات إلى المدرسة العسكرية بالمدينة المنورة.
بعد الإفطار وخلال فسحة قصيرة لا تتجاوز عشر دقائق، دخلت على مساعد قائد المدرسة وأديت له التحية، وقلت له: لدى موضوع خاص وليس رسميًا، فقد رأيت فى المنام رجلًا يرتدى عمامة بيضاء وجبة سوداء، جميل الصورة تكسو وجهه لحية كثيفة، أعتقد أنه النبى، صلى الله عليه وسلم، قال لى بأن الملازم عبدالقادر غاضب عليك لأنك عصيت الأوامر، وكان يتمنى أن تكون من خيرة الطلاب، لأنه كان تلميذًا لوالدك، فاذهب إليه غدًا واعتذر له ولا تعد إلى مثلها.
انتظرت ردة الفعل وإذا بالملازم يضرب بيده المكتب ويرفع صوته قائلًا: والله إن هذا هو النبى، صلى الله عليه وسلم، لأن ما ذكره هو ما حدثتنى به نفسى فلا تعد لمثلها وباللغة العسكرية قال: (كما كنت) أى بمعنى كأنك لم تفعل شيئًا.
خرجت إلى زملائى وكانوا ينتظروننى فى الخارج، فقالوا: بشر!، قلت: كما كنت، قالوا: كيف حدث ذلك، قلت: هذا سر أحتفظ به لنفسى، وفرح الزملاء واستغرب باقى الطلاب، ولم أعد بعدها إلى مثل هذا العمل.
بعد ثلاث سنوات وقد تخرجت فى الكلية الحربية وأصبحت برتبة ملازم ثان، وبعدها بعام واحد جمعتنى مع مساعد قائد المدرسة دورة فى اللغة الإنجليزية فى الرياض، واجهت تحديًا كبيرًا، إذ إنى لا أعرف من اللغة الإنجليزية إلا القليل، كما كنت صغير السن والرتبة بالنسبة لزملائى فى الدورة والسكن، وكان زملائى يجيدون اللغة الإنجليزية لكنهم التحقوا بمعهد اللغات العسكرى، كان ذلك عام ١٣٧٩ هـ، وبعد أسبوعين من التحصيل الضعيف وجدت نفسى أقفز إلى العشرة الأوائل، لأنى كرست جهدى فى تعليم اللغة، وجاء الامتحان النهائى وكان الرئيس يجلس إلى جوارى نظرت إليه فوجدته لا يجيب، ومر نصف الوقت وورقته بيضاء، أما أنا فقد أشرفت على النهاية.
ما إن أتممت الإجابة حتى سحب الرئيس عبدالله ورقتى وكتب عليها اسمه وقدمها للمراقب، ووضع ورقته أمامى، فكان علىّ أن أجيب عن الأسئلة من جديد، وفى عجالة أخذت أجيب قبل انتهاء الوقت وسلمت الورقة، فكانت النتيجة أن حصلت على الترتيب الخامس فى الفصل، بينما كنت أطمع أن أكون الأول، ومن يومها تحول القائد عبدالله إلى صديق، ولم أذكر له قصة المنام حتى لا يشعر بالخديعة الكبرى.
ظللت فى المدرسة العسكرية ستة أشهر، تعلمت فيها الانضباط والانسجام مع الزملاء، والتعود على الحياة العسكرية، كنا فى الصباح فى الطابور الصباحى نتدرب على الخطوات والأوامر العسكرية، ولم نكن نخلع البزة العسكرية إلا عند النوم.
خرجت فى أول إجازتى، أمشى على قدمىّ مع زملائى لم نكن نضع رتبًا عسكرية وإنما قطعة مبرومة على الأكتاف كأنها رتبة، وكنت أفاجأ بأن الجنود يعطوننا التحية ونردها عليهم اعتقادًا منهم بأننا ضباط، أخذنى وقتها شىء من الزهو، فزاد ذلك من حبى للحياة العسكرية. بعد الطابور الصباحى، كنا نعود إلى المدرسة العسكرية ونمارس تعليمنا المدنى، ولهذا كان المدرسون من المدنيين، فإذا نودى للاجتماع نتجمع فى شكل طوابير، فإذا كانت هناك تعليمات ألقيت وإلا تحركنا على هيئة طابور إلى الفصول، وكذلك الحال عندما نذهب للفطور والغداء والعشاء.
كان يوم الخميس من أحب الأيام إلىّ فقد كانوا يفتشون على ملابسنا وبزاتنا العسكرية فى المعسكر بسلطانة، وذلك بعد الطابور الصباحى، ومن لم يكن نظيفًا فى نفسه وملابسه وأدواته يعاقب، إما بالطابور الإضافى أو عدم التمتع بالإجازة.
كان الشريك، وهو نوع خاص من الكعك تشتهر به المدينة، يقدم لنا فى إفطار يوم الخميس ونتناوله مع القشدة والمربى وحتى الأكل لا يقدم إلينا بل نأخذه فى أطباق مقسمة لوضع مختلف الأطعمة عليها ثم نتجه بخطوات عسكرية إلى صالة الطعام.
وبعد الفطور نجتمع ويلقى علينا قائد المدرسة أو مساعده كلمة تتضمن التعليمات حول آداب المشى والسير فى الطرقات ورد التحية للعسكر، وأن نكون مثالًا للانضباط والأخلاق مع أهالينا وأصدقائنا، بعدها ننصرف فيأخذ كل منا أغراضه خاصة ما يتطلب الغسيل والكى إلى المنازل.
كنت أستقبل فى المنزل بالحب والترحيب، وكان أبى يلحظ التحول فى سلوكى، أما الوالدة فكانت تسألنى كيف آكل وكيف أنام، وكانت سعيدة بسعادتى، فكانت تطهو لى الطعام الذى لا أتناوله فى المدرسة العسكرية، وأظل مع أهلى وإخوانى وزملائى إلى يوم السبت.
كان انتقالى إلى الكلية الحربية بالرياض على طائرة عسكرية يمثل نقلة عسكرية من اللين إلى الشدة، ومن الجرعات العسكرية القليلة إلى جرعات أكبر، وكنا عشرة من الطلاب، وكانت أول دفعة تنتقل من المدرسة العسكرية بالمدينة إلى كلية الملك عبدالعزيز الحربية بالرياض.
لقد ألفت الحياة العسكرية وأحببتها حتى إنى اليوم أُحدث نفسى لو عاد بى العمر فإنى لن أرضى بالعسكرية بديلًا، لأن الانضباط مريح للنفس وتهذيب للسلوك وتنظيم للوقت.