رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طه حسين.. لقاء بلا حوار


ما إن بلغت الحادية عشرة من عمرى، حتى تخرجت فى مدرسة النجاح الابتدائية، ورغب والدى فى أن التحق بالمعهد العلمى السعودى، كان المعهد واحدًا من المعاهد العلمية المنتشرة فى المملكة، يهتم بالدروس الدينية إلى جانب الدروس الأخرى.

كان المعهد فى منطقة تقع شمال غرب المسجد النبوى تعرف بالسحيمى، وكان المبنى من قبل للمدرسة الناصرية، ويتكون من ثلاثة أدوار تطل كلها على البهو، تخرجت عام ١٣٧٣هـ الموافق ١٩٥٤م، ومدرسونا كانوا خليطًا من السعوديين والمصريين، ومن أشهر السعوديين الأستاذ العبسى، ومحمد ثانى، أما من المصريين فكان الدكتور الشهير عبدالمنعم النمر، أما مدير المدرسة فقد كان الشيخ الوقور عبدالكريم السنارى والمراقب الشيخ أمين مرشد.

الانتقال إلى المعهد يمثل نقلة علمية، فقد كنا نتعلم فى المعهد مواد لم نعهدها فى الابتدائية، كنا ندرس الحديث ومصطلحه والقرآن وأصوله والفقه والتوحيد والمعلقات وغيرها من المواد، كما أسهمنا فى إنشاء مسرح للتمثيل، وعلى خشبة المسرح كانت تؤدى أروع المسرحيات، وقد كان التركيز على الشعر التمثيلى، فقد مثل الطلاب مسرحية العباسة أخت الرشيد لعزيز أباظة، وبلال بن رباح للشاعر محمد العيد آل خليفة، وقد تم اختيارى لأداء دور أبى بكر الصديق عندما اشترى بلالًا وأعتقه عتقين، عتقًا من العذاب وعتقًا من الرق، فقد انتقد أبوبكر أمية بن خلف أثناء تعذيبه له، فرد عليه أمية بأنه إذا رغب فعليه أن يشتريه، فاشتراه وأعتقه وقلت فيها:
أمية هل جنى ذنبًا بلال
فتمعن فى العذاب وفى النكال
أما تخشى إله العرش
ربى وربك فى امرئ بادى الهزال
كان أمير المدينة الأمير عبدالله السديرى، حاضرًا وكثير من الشخصيات العلمية والأعيان، ولم يعرفنى والدى وأنا أمثل الدور، وكان هناك تنافس بين المدرسة الثانوية والمعهد العلمى فى المسرحيات.
ومن أبرز الذين زاروا المعهد عميد الأدب العربى طه حسين، الذى وصل إلى المملكة فى يناير عام ١٩٥٥م بمناسبة افتتاح الدورة التاسعة للجنة الثقافية بجامعة الدول العربية، التى تطورت فأصبحت فيما بعد المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
كان طه حسين رئيسًا لهذه اللجنة التى عقدت بمدينة جدة، بدعوة من الأمير فهد بن عبدالعزيز يوم كان وزيرًا للمعارف، واستمرت الزيارة ١٩ يومًا، فألقى خطابه أمام الجمعية، بحضور كبار المثقفين والمسئولين، وبحضور الملك فهد شخصيًا وألقى كلمة قال فيها:
«أشعر الآن أنى أتحدث فى بلاد العرب، التى عاش فيها النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفى البلاد التى مر عليها وقت كان أهلها يقولون: ما أشد قرب السَّماء من الأرض، ثم مر عليها وقت كان بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، كان بعضهم يبكى، لا لأن شخص محمد قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، بل لأن خبر السماء قد انقطع عن هذه البلاد».
لقد رحب الجميع بمقدم طه حسين للمملكة، وتابعته كل الصحف والمجلات التى كانت تصدر آنذاك، مثل أخبار الظهران ومجلة الرياض، والمدينة المنورة، وأم القرى، واليمامة والمنهل، وشارك فى هذه الكتابات عبدالله عريف وعبدالقدوس الأنصارى وعبدالحميد عنبر وعلى حافظ وعثمان حافظ، وعندما سُئل عن الروافد الثقافية التى ينصح بالاتجاه إليها، أجاب قائلًا: إنها نفس الروافد التى أنصح بها، والتى تقضى أن تفتح القلوب والعقول على مصراعيها للعلم والفن والثقافة مهما تكن مصادرها، وأن نبذل أقصى ما نستطيع لنحمى قلوبنا وعقولنا من أن تستأثر بها ثقافة غربية بعينها.
وعندما تكلم عن الثقافة فى السعودية آنذاك قال: هى ثقافة ناهضة يشخصها ذكاء القلوب، ونفاذ البصائر، وتحرر العقول، وهى بعد ذلك مشابهة من وجه غير عام لغيرها من الثقافات فى البلاد العربية، وإن كانت تمتاز عنها برصانة فى اللفظ، وجزالة فى الأسلوب، وصرامة فى التفكير، وخفة فى الروح.
فى تلك الزيارة أدى عميد الأدب العربى العمرة، وفى طريقه من جدة إلى مكة المكرمة، همس فى أذن مرافقه الشيخ أمين الخولى، قائلًا له: توقف بى عند الحديبية، فلما توقفا ترجّل طه حسين، وأخذ قبضة من تراب الحديبية، فشمها ثم تمتم وانهمرت دموعه على التراب، وهو يقول: «والله إنى لأشم رائحة النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا التراب الطاهر».
ما إن وصل وبدت أمامهم الكعبة حتى توقف وكأنه يراها وهو ضرير، فأخذته الرهبة واعتراه الخشوع.
بعد العمرة جاء إلى المدينة المنورة لزيارة المسجد النبوى، ثم جىء به إلى المعهد العلمى السعودى، وتلك كانت المرة الأولى والأخيرة التى شاهدت فيها عميد الأدب العربى، فقد طلبوا منه أن يلقى كلمة، فوقف على السياج المطل على البهو وأسند يديه على طرف السياج، فصمت الجميع، ليلتقطوا كل حرف وكل كلمه تنثال من شفتيه.
ما كان أحد يستطيع أن يحاكيه فى جمال صوته، فقد كانت له حلاوة ممزوجة برخامة، تخترق العقول والقلوب، وعلى الرغم من أنى لم أتجاوز الثانية عشرة من العمر فقد أحسست بعظمة الحدث والحديث، لقد قال:
ما كان لى أن أتكلم بمدينة النبى صلى الله عليه وسلم، وما كان لى أن أرفع صوتى فوق صوته وقد قال تعالى «يا أَيُّها الَّذينَ آَمَنوا لا تَرفَعوا أَصواتَكُم فَوقَ صَوتِ النَبِىِّ»، ثم استرسل يحدثنا عن عبقرية المكان، وأهمية الزمان، ويحفزنا على طلب العلم والأدب والثقافة، ومع أنى لم أكن أدرك كل ما قال، لكنى كنت أشعر أن فؤادى كان يستوعب ما يتحدث به.
لقد أجرت فيما بعد مجلة «صرخة العرب» التى كان يرأس تحريرها السيد أحمد عبيد، وهى المجلة السعودية الوحيدة التى كانت تصدر من القاهرة- مقابلة مع الدكتور طه حسين، سطر خلالها مشاعره حول تلك الزيارة، كما ذكر لقاءه مع الأمير فهد بن عبدالعزيز الذى كان وزيرًا للمعارف يومها، عندما استشار عميد الأدب العربى حول فتح جامعة فى المملكة.
لقد أوصى الدكتور طه حسين بالتريث فى فتح جامعة، ريثما تصقل المدارس الثانوية، لكنه عقب قائلًا: وإنى على يقين من أن الأمير فهد سوف يبادر بفتح الجامعة، لأنى رأيت فيه توقًا إلى ذلك.
كما سطر الدكتور طه حسين مشاعره من الإقبال على التعليم فى المملكة العربية السعودية، وقال: «كأنى أرى العلم والثقافة ينبعثان من جديد من الأراضى الحجازية كما بعثت تلك النهضة التعليمية فى صدر الإسلام».
على الرغم من أنى لم أتجاوز الثانية عشرة من عمرى، إلا أنى لم أنس عميد الأدب العربى وهو يتحدث بتلك الكلمات، وكلنا وقوف نستمع إليه بصوته الجهورى وأسلوبه الجزل ونبراته الصادقة، لقد كنت أستمع إليه وكأنه يتحدث شامخًا من بين الأهرامات الراسخة على مختلف العصور.
كانت المملكة تشجع الطلاب على الانخراط فى التعليم الثانوى بالمعهد، فتكافئ كل طالب شهريًا بأربعين ريالًا من الفضة، وكنت حال تسلمى لها أذهب إلى إخوانى فأشترى لهم ما يرغبون، وأول ما شريت لهم لعبة «الكيرم» فكانت سببًا فى صقل المهارات.
ظللت فى المعهد سنتين، ولم أكمل دراستى فيه، وبطلب من الرئيس على الشاعر انتقلت إلى المدرسة العسكرية بالمدينة المنورة، وهى التى تهيئ الطلاب للالتحاق بكلية الملك عبدالعزيز الحربية بالرياض.
كان الرئيس على الشاعر يرغب فى التحاق أبناء الأسر الكبيرة بالمدرسة العسكرية، كى يكونوا قدوة لغيرهم، فكان لالتحاقى أثر كبير فى حياتى، إذ علمتنى العسكرية الانضباط، وهذا ما نفعنى فى مسيرتى الحياتية.