رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحلة فى الذاكرة «7».. من فلسطين إلى زقاق جعفر


خلال الأسبوع الماضى، وهو الأسبوع الأخير من فبراير ٢٠١٨، جاءنى أحد المنتجين يطلب منى أن أكتب له عن الجيش السعودى فى فلسطين، ليخرج له فيلمًا تماشيًا مع رغبة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذى أمر بإعادة فتح دور السينما بعد إغلاقها لأكثر من ثلاثين عامًا.
طافت بى الذكريات عندما كنت أستمع لابن عمى عبدالغنى عشقى الذى قاتل مع الجيش السعودى فى فلسطين وكيف احترقت خيمته، لقد بدأت العملية، بعد أن التقى الملك عبدالعزيز الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت فى فبراير عام ١٩٤٥ قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، وتنكشف خريطة المنطقة التى ظلت إلى يومنا هذا وظللنا نعانى منها حتى اليوم.
كان غرض بريطانيا هو فصل شرق الأمة العربية عن غربها، لأنهم يعتقدون أن الأمة العربية إذا توحدت وتقدمت ستشكل خطرًا يهدد مصالح الغرب، وقد قال كامبل بانارمان رئيس الوزراء البريطانى: «هناك شعوب فى الشرق الأوسط لها كل مقومات الوحدة والتقدم، فمتى ما اتّحدت، فستشكل خطرًا يهدد مصالح الغرب، ولا بد من وجود حاجز بشرى يفصل شرق هذه الشعوب عن غربها»، فجاءوا بإسرائيل، وأحكموا العداء وأسالوا الدماء بيننا.
أخذت النازية تقتل اليهود، وأقامت لهم المحارق، فظلوا يبحثون عن ملجأ، فوجدت بريطانيا فيهم ضالتها وهجرتهم إلى فلسطين، أراد الرئيس الأمريكى روزفلت أن يستمزج رأيا للعرب حول ذلك، فعرض الأمر على الملك عبدالعزيز رحمه الله.
ذكر القنصل الأمريكى الذى كتب عن هذا اللقاء، والذى كان يقوم بدور المترجم بين الملك عبدالعزيز رحمه الله والرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت، ما إن عرض روزفلت المقترح حتى استشاط الملك عبدالعزيز غضبًا وقال له: «امنحوا لهم أرضًا بألمانيا فهم الذين اضطهدوهم، فالعرب لم يلحقوا شرًا باليهود، بل الألمان هم سرقوا أموالهم واختطفوا أرواحهم فلماذا يدفع العرب الثمن؟».
أعجب روزفلت بإجابة الملك عبدالعزيز واقتنع بما طرحه، لكن بريطانيا أصرت على مخططها ووعد روزفلت الملك بعدم دعم استيطان اليهود فى فلسطين، لكن هارى ترومان خالف الاتفاق، عندما تولى الرئاسة الأمريكية.
وفى ١٢ أبريل من عام ١٩٤٧ اجتمعت الجمعية العامة للأمم المتحدة بناء على طلب من الحكومة البريطانية، وتأييدًا من حكومة ترومان، للبحث فى مسألة فلسطين، وتم تشكيل لجنة من إحدى عشرة دولة لهذا الغرض، وانتهت اللجنة إلى تقرير رأت فيه الأغلبية تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، بينما رأت قلة منهم إقامة دولة اتحادية مع وجود حكومتين مستقلتين إحداهما للعرب والأخرى لليهود، وأن تكون العاصمة هى القدس.
تم التصديق على القرار فى ٢٩ نوفمبر عام ١٩٤٧ بتأييد ٣٣ دولة وعارضته ١٣ دولة، مع امتناع عشر دول عن التصويت، لكن الأمير فيصل بن عبدالعزيز الذى حضر المناقشات مندوبًا عن المملكة العربية السعودية، غضب ووجه كلمة شديدة اللهجة منتقدًا أعضاء الجمعية العامة وشدد حملته على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد أن خسرت الدولة العثمانية فى الحرب العالمية الأولى التى وقعت مع ألمانيا وبموجب ذلك خسرت أراضيها العربية لصالح بريطانيا وفرنسا بموجب معاهدة سيفر ١٩٢٠ ومعاهدة لوزان ١٩٢٣، فكانت فلسطين ضمن الأراضى التابعة لبريطانيا، وبذلك خضعت فلسطين للانتداب البريطانى حتى عام ١٩٤٨.
وفى ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧ وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة، على قرار تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة عربية فلسطين، وتدويل منطقة القدس أى لا تنتمى لدولة معينة فكانت ٥٦٪ من الأراضى لليهود و٤٣٪ للفلسطينيين و١٪ القدس دولية بإدارة الأمم المتحدة.
رحب الصهاينة بمشروع التقسيم وشعر العرب والفلسطينيون بالإجحاف وتصاعدت حدة القتال بعد قرار التقسيم، وفى بداية ١٩٤٨ تشكل جيش الإنقاذ بقيادة فوزى القاوقجى، وشارك فيه السعوديون، وعمدت منظمتا ستن والأراجون إلى الإرهاب واستخدام السيارات المفخخة.
عندها قررت الجامعة العربية إرسال الجيوش العربية إلى فلسطين، وأكدت اللجنة السياسية أن الجيوش لن تدخل قبل انسحاب بريطانيا المزمع فى ١٥ مايو، فقررت بريطانيا إنهاء الانتداب فى منتصف الليل بين ١٤ و١٥ مايو ١٩٤٨ بضغط من الأمم المتحدة التى طالبتها بإنهاء الانتداب، وفى نفس اليوم أعلن المجلس اليهودى فى تل أبيب قيام دولة إسرائيل، واعترفت بها أمريكا بعدها ببضع دقائق، أما الاتحاد السوفيتى فاعترف بعد ثلاثة أيام ولم يتم تعيين الحدود لإسرائيل.
أسفر الإعلان عن بدء حرب بين إسرائيل والدول العربية المجاورة، فوصلت الجيوش العربية من مصر وسوريا والعراق والأردن والسعودية ولبنان إلى فلسطين، وهاجمت القوات المصرية تجمعى كفار داروم ونيزم الصهيونيين فى النقب، لكن أقوى الجهات كانت الأردنية، فقد عبرت ثلاثة ألوية تابعة للجيش، لكن عبدالله التل فى مذكراته ذكر أن الجيش السعودى كان الأفضل، وهو ما أكده المصريون الشجعان.
مع بداية المناوشات أرسل مفتى فلسطين أمين الحسينى والهيئة العربية العليا فى فلسطين مندوبا إلى الملك عبدالعزيز رحمه الله لطلب المساعدة فأمر الملك بإرسال الأسلحة والذخائر إلى الثوار فى فلسطين، وتبرع الشعب السعودى بخمسة ملايين ريال، كما أرسل الملك عبدالعزيز فرقة سعودية للجهاد.
توجهت الدفعة الأولى بالطائرات، فيما أرسلت البقية من السرايا بالبواخر وبلغ عدد الضباط والأفراد ثلاثة آلاف ومائتى رجل، وتعددت المواقع التى شاركت فيها القوات السعودية فى فلسطين، ومن أهمها معارك ديرسند وأسدود ونحنا والمجدل وعراق السويدان والحليقات وبيرون إسحاق وكرانيا، وبيت طيما وبيت حنون وبيت لاهيا وغزة ورفح والعلوج ونبتة الجيش وعلى المنطار والشيخ نوران.
قامت القوات السعودية إضافة للقتال بنسف أنابيب المياه، وعرقلة سير القوافل بتموين المستعمرات، واشتركت القوات السعودية فى القتال على الخطوط الأمامية فى غزة والمجدل وديرسند وأسدود ونيتسانى مع القوات المصرية، أما عين خضر فقد كان قرب قناة السويس وتصدى فيه ٨٣٠٠ جندى سعودى للجيش الإسرائيلى المكون من ٣١٦٠٠ جندى بعد اشتباك ومحاصرة القوات السعودية لمدة أربعة أيام وكسر السعوديون الحصار، وأسروا ٤٧٦ إسرائيليًا بعد أن قتل فى فلسطين ١٧٨٤ شهيدًا سعوديًا.
كل ذلك كان ابن عمى النقيب عبدالغنى عشقى يقصه علينا فى منزل والده السيد عدنان عشقى بزقاق جعفر بالمدينة المنورة، لقد كنا نحرص على الحضور للسلام عليه إذا قدم فى إجازته، ونلتف حوله لنستمع إلى تلك القصص، فقد كان المنزل يقع وسط زقاق جعفر،
وأمامة مسجد للقازازيين من روسيا، فقد كنت وأنا فى السابعة من العمر أرتاد المسجد للصلاة فيه بحجمه الصغير.
كان المسجد ملحقًا على رباط للقازازيين إذا قدموا إلى المدينة المنورة سكنوا فى الرباط، إذ لم يكن فى المدينة سوى فندق واحد بباب المجيدى هو فندق التيسير، فكان لكل جالية رباط يستقبلون فيه الزائرين للمسجد النبوى، وما زاد على ذلك سكن فى المنازل، حيث كان بعض أهل المدينة ينتقلون إلى الطابق العلوى فيؤجرون الطوابق السفلية.
كان منزل العم عدنان مطلًا على زقاق جعفر من الجهة الجنوبية، أما الغربية فكان مطلًا على شارع ضيق هو شارع العم حمزة نور الذى ينتهى بمنزل العم أحمد صقر وكان الأخير من الابنين عباس وجماز وكانا من الأشراف، فجماز كان موظفًا، وأما عباس فكان يعمل مساعدًا لكاتب العدل ومأذونًا للأنكحة، لكنه كان شديد التقوى.
فى آخر أيامه كان يصلى التراويح فى الروضة الشريفة، وفى نهاية التراويح وفى السجدة الأخيرة توفاه الله، وقص هذه القصة الأستاذ غسان القين على الشيخ عبدالحميد كشك فى القاهرة، فصرخ الشيخ قائلًا: «اللهم أوعدنا ما أجمل هذه الميتة، ويستجيب الله ويموت الشيخ كشك وهو ساجد».
كان أنيس منصور يكتب فى مجلة الإثنين،
ونشر بدعة تحضير الأرواح التى أحضرها من رحلة ٢٠٠ يوم حول العالم، وانتشرت فى المدينة وغيرها من المدن العربية، وجربها إخوانى فى زقاق جعفر، لقد أحضروا روح السيد أحمد صقر وقالوا له إن ابنتك مريضة، وطال بها الحال، فماذا ترى؟ فكتب لهم وصفة أحضروها من العطار وغُليت بالماء وأُسقيت لابنته فشفاها الله عز وجل.
كان منزلنا كبيرًا واسعًا يقع على المناخة خلف المكتبة، وعلى بداية زقاق جعفر، ولم يكن الشارع واسعًا بل لا يزيد على ستة أمتار عرضًا، ويتفرع منه عدد من الأحوشة من أهمها حوش اللكيع الذى كان يسكنه الشيخ أبوالطيب الأنصارى وهو من كبار العلماء فى المدينة المنورة، وكان ابن الدكتور عبدالرحمن الأنصارى الأستاذ بجامعة الملك سعود الرائد الأول للآثار فى المملكة العربية السعودية.
كنت ذات يوم أستمع لابن عمى السيد عبدالغنى عشقى، وكنت شغوفًا بقصص حرب فلسطين، وما كنت أدرى أن ذلك جعلنى ألتحق فيما بعد بالعسكرية، وقضيت فيها ردحًا من عمرى وصل إلى ستة وثلاثين عامًا كانت من أمتع أيام حياتى.
كان ابن عمى يحدثنى ويتعاطى الأرجيلة، وكان يتكلم بين النفسين، ذهب يومًا إلى قضاء حاجته وتركنى وحيدًا مع الأرجيلة، ولما خلوت بها تناولت المبسم وأخذت نفسًا ونفسين، فأحسست بالدوار، فقررت الذهاب إلى المنزل وأنا أتخطى السلالم نزولًا سقطت وتدحرجت على السلالم ثم وليت مدبرًا إلى المنزل، ومن يومها كرهت الأرجيلة والدخان ولم أتعاط شيئًا منهما.
إن الحديث عن النكبة على الرغم مما فيه من المآسى، إلا أنه محفوف بالعبر.فلقد أثبتت النكبة أن العرب لا يخططون، وتسبق عواطفهم عقولهم، ويعيشون أمجاد الماضى، ويلعنون الحاضر ويعرضون عن المستقبل. لهذا كانت لديهم قابلية للاستعمار كما يقول ابن نبى.
لكن اليوم وبعد عاصفة الحزم، أخذ العرب يفكرون ويتعرفون على اللعبة السياسية، إننا نعيش اليوم ظروفًا صعبة ولا بد من تجاوزها، ولن نتمكن من ذلك إلا إذا وحدنا صفوفنا وحددنا أهدافنا المشتركة، وقررنا توظيف الإمكانيات للوصول إليها.