رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من لورنس العرب إلى مدرسة النجاح


مررت وأنا فى طريقى إلى غرفة النوم بصالة الجلوس، وكان حفيدى يشاهد فيها فيلمًا أجنبيًا، فقلت له: بعد الفيلم سأحدثك عنه، جاءنى فى المكتب فقلت له متسائلًا: ماذا فهمت من الفيلم؟ قال إن لورنس العرب كان يُعلم العرب الحرية والقيم وفن الحرب.

قلت له: إن هذا مخالف للحقيقة التى تقول بأن لورنس العرب جاء مستشارًا للشريف فيصل بن الحسين لإخراج الأتراك من جزيرة العرب، ونجح فى تجييشهم ضد الأتراك، فهو أول من أدخل إلى الجزيرة العربية الأعمال الإرهابية، عندما كان يفجر السكك الحديدية ويقتل الأتراك.
بعد إخراج الأتراك من الجزيرة العربية، وباقى المدن فى الشام ألّف كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» وقال فيه: «إن مُت فأموت قرير العين لأنى لم أتسبب فى قطرة دم إنجليزية، لأن قطرة الدم تساوى العرب والمسلمين».
لقد اتفقت بريطانيا والشريف حسين على إعلان الثورة العربية، وأن يكون الشريف ملكًا على العرب، وفى الوقت نفسه كانت بريطانيا تتفاوض مع فرنسا على تقسيم الدول العربية بينهما فى الاتفاق الشهير «سايكس بيكو».
فالأتراك انضموا إلى ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى، وأرادت بريطانيا إضعافهم فأثارت العرب عليهم، مستغلة محاولة الأتراك تجنيد العرب إجباريًا، وقتلت بعض القادة فى سوريا على يد جمال باشا، لأن العرب رفضوا التتريك.
تم الاتفاق بين مكماهون والشريف حسين على إعلان الثورة العربية فى يونيو ١٩١٦ على أن تكون فى مكة والمدينة والطائف، فأرسل أبناءه الثلاثة فيصل وعبدالله وعلى إلى المدينة للاستيلاء عليها بمجرد إعلان الثورة، وقد نزل ثلاثتهم فى دار ابن سليم بباب الشامى خارج سور المدينة.
هذه الدار التى أصبحت مدرسة النجاح التى تلقيت الابتدائية فيها، وأنا فى الخامسة من عمرى، وعندما بلغت العاشرة كنت فى الصف الخامس، وكان الفصل يطل على جبل سلع، لم يكن بباب الشامى مبانٍ عديدة، وفى يوم كانت حصة المحفوظات، وكان المدرس الشيخ حامد عبدالحفيظ، رحمه الله، هطلت الأمطار، وكان منظر الأمطار رائعًا على الجبل، وكان الماء يسيل من بين الصخور، فتوقف الأستاذ وطلب أن نكتب شعرًا نصف فيه هذا المنظر، وبدأ كل منا محاولاته، فقال الأستاذ: أنا على يقين من أن أنور سيكون الأفضل لأن جده شاعر، شجعنى كلامه ذلك فكتبت قائلًا:
هطلت على بلد الرسول.. كثرة من الأمطار
رحمة من عند الله الواحد القهار
فترى الميازيب كأنها.. شلالات أنهار
وترى الغدران بكثرة.. مثل البحار الزاخرات
والأرض تخضر كأنها.. حدائق واسعات
وإذا البروق تنير فى الظلام.. لتهدى بها العابد العريان
ما إن ألقيت الأبيات حتى صفق الأستاذ وصفق معه الطلاب، وأخذتنى وقتها نشوة فما إن انتهت الدراسة وعدت إلى المنزل وقد كان أبى مدير المدرسة، حتى قلت له: لقد قلت شعرًا وصفقوا لى فى المدرسة وهممت أن ألقى القصيدة أمام أبى لكنه نهرنى ورفض الاستماع، لأنه لا يريدنى أن أنصرف عن العلم والفكر إلى الشعر.
جاء الملك سعود بن عبدالعزيز، رحمه الله، إلى المدينة المنورة بعد أن بعث له ثلاثة يقولون بأن كلًا منهم رأى النبى، صلى الله عليه وسلم، فى المنام وقال له: أبلغ الملك سعود بأن يرفع عنى الأذى، وجاء الملك سعود واكتشف أن مياهًا آسنة تسيل قريبًا من الحجرة النبوية، فنزع الملك ملكية المنازل حول المسجد وأبعد البناء عنه من جهة الشرق، وهو ما جاء فى مجلة «صرخة العرب» التى كان يحررها السيد أحمد عبيد بمصر، وأقيمت للملك سعود الحفلات وفى كل حى أعد له سرادقًا للاحتفال وطلبوا من أبى أن يأذن لى أن ألقى قصيدة أمام الملك سعود ضمن الاحتفال.
أجابهم الوالد، رحمه الله، بأن أنور يلعب مع زملائه فى الشارع، قالوا بلغنا بأنه يلقى الشعر جيدًا ويقول الشعر، فقال الوالد: اعرضوا عليه الأمر أنتم، ما إن عرضوا علىّ الأمر حتى رحبت بذلك.
فى المساء أخذنى والدى معه لجلسة مع لفيف من الأدباء والعلماء فى منزل السيد محمود فيض أبادى بجوار الحرم، واعتادوا الجلوس بعد صلاة المغرب إلى العشاء ثم أدوا صلاة العشاء فى المنزل ثم تفرقوا.
كان ممن اعتاد الحضور الشيخ عمر برى وكان من العلماء، كما كان شاعرًا وقورًا يكسيه الشيب جمالًا ووقارًا فقال له والدى: لقد طلبوا من ابنى فى حى المناخة أن يلقى قصيدة أمام الملك سعود، فما تراه أن يقول، فقال الشيخ عمر برى خُذ الورقة والقلم واكتب:
يا أيها الملك العظيم العالى يا كعبة الإحسان والآمال
يا زهرة الدنيا وقيت من الردى العبد يقصدكم بكل كمال
ومقدمه لك باقة لولائه فاحفظ عبير الود والإجلال
فى طريقنا للعودة إلى المنزل قال لى الوالد: لا تلق القصيدة فاختر غيرها، قلت لماذا قال: إن فيها نوعًا من التسول بالشعر، فتخليت عنها، وفى اليوم الثانى وأنا فى طريقى إلى المسجد النبوى مررت على الأستاذ عبدالله فرج الزامل بشارع العيينة وكان قد وضع منضدة له يكتب فيها المعاريض لمن يشاء بشارع العيينة الشهير، بين دكان العم فهيم خليفة، وعبدالكريم دادا، فقصصت عليه ما جرى مع الشيخ عمر برى.
قال لى: اذهب إلى المسجد وبعد الصلاة تجد القصيدة، وذهبت لصلاة العصر وعدت فوجدته قد أعد لى قصيدة حفظتها وأقرها والدى، وفى المساء كنت وزملائى نلعب حول السرادق، وجاء الملك سعود وإذا هم ينادون علىّ.
وقفت ألهث على المنبر، وألقيت القصيدة أمام الملك سعود، رحمه الله، ما إن فرغت حتى دعانى الملك وأمر لى بثلاثمائة ريال فضة، حملتها فى اليوم الثانى، وكان مبلغًا يكفى لشراء ثلاث أراضٍ بباب الشامى فسلمتها للوالد.
رفض الوالد تسلمها فقلت: ماذا أفعل بها قال تصرف أنت فيها، وتعجبت كيف لطفل أن يتصرف فى هذا المبلغ الكبير، فقلت له سأتصرف وذهبت بالكيس إلى سوق الصاغة وهو جزء من سوق القماشة موازٍ لشارع العيينة.
ذهبت إلى جارنا الشيخ درويش سلامة شيخ الصاغة وقلت له: الملك سعود أعطانى ثلاثمائة ريال فضة وأرجو أن تعطينى بها بناجر (أساور) ذهب لوالدتى.
فأخرج الذهب ووزنه بالميزان وأخذته إلى والدتى التى فرحت به فرحًا شديدًا وظل فى معصمها إلى أن توفى والدى، رحمه الله، وظلت تذكر ذلك حتى توفاها الله.
لقد كنت أشد سعادة من والدتى، لأننى وجدت الفرح فى عينيها عندها أدركت أن السعادة هى فى إسعاد الآخرين، وخاصة الأعزاء منهم ومن أعز من الأم على نفس كل إنسان.