رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التفكير الاستراتيجي المبكر


كان منزلنا خلف مكتبة المدينة المنورة بالمناخة، وكان مكانها السبيل وهو معسكر الجيش، وكان إلى جوارها شجرة الحماط، لم أر مثلها فى حياتى، فهى كالقبة يستظل بها أكثر من ألف من الرجال، لكنها كانت فى الصيف تسقط أوراقها فتملأ المناخة بالورق الجاف.
لم يكن فى المدينة طريق مرصوف، ولم تكن بالمدينة شبكة مياه ولا كهرباء، لكن معاوية بن أبى سفيان أمر بأن يجرى نهر بالمدينة تحت الأرض، ليزود أهلها بالماء العذب، فأمر مروان بن الحكم الذى كان واليًا بالمدينة يجرى الماء، وأرسل له المهندسين من الشام.
أجروا اختبارًا على سفح جبل أحد عند سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، ولأن شرق أحد كان مرتفعًا وغربها كان منخفضًا، فحفروا الآبار فى الشرق وسيروها فى نفق مجصص تحت الأرض، وفتحوا لها فتحة إلى جوار سيد الشهداء، فكان سكان أحد يشربون منها، وهى تجرى فى النفق وتصب فى الخيوف، وهى مزارع تقع فى غرب أحد.
كنا نتوضأ منها وكنا نرى أسماكًا صغيرة فى تلك المياه دون غيرها، وقد علمت فيما بعد أن التربة فى سفح أحد، وفى منطقة العاقول حيث تتجمع السيول، تحتوى على بيض الأسماك قد حفظت فى الكلس يعيش مئات السنين إذا وضعته فى إناء من ماء عذب، كشف تجبل الكلس وفقس البيض وخرجت منه الأسماك.
ما إن نجحت التجربة، حتى عمد المهندسون إلى جنوب المدينة حيث قباء والعوالى فحفروا الآبار وسيروها فى أنفاق واسعة تحت الأرض، فجرى الماء كأنه نهر من جنوب المدينة المرتفع إلى شمالها المنخفض، وفتح ما يسمى العيون، وهى عبارة عن فتحة كبيرة تنحدر إلى ما يقارب عشرة أمتار، وبعرض لا يقل عن عشرين مترًا طولًا وعرضًا ينزل فيها السقاءون إلى النهاية، حيث الصنابير التى ثبتت فى جدار الأنفاق فيتدفق منها الماء، فيملأون القرب والزفاف وكانت الزفة عبارة عن صفيحتين من الزنك تملآن بالماء، فيصعد بها السقاءون إلى سطح الأرض، ويذهبون بالماء إلى المنازل لتزويدها بالماء لقاء مبلغ من المال.
كان فى المدينة خمس وعشرون عينًا موزعة على معظم الحارات، وكان للسقائين شيخ يجلس فى منتصف السلالم على كرسى عريض يراقب حركة السقائين، وينظم سيرهم، ويعاقب مذنبهم ويرد مخالفهم، وإذا ما صدرت من أحد منهم مخالفة فى المنازل التى يسقونها بالماء (حُشّم السقاء) بمعنى عوقب حسب خطئه، فقد يصل العقاب إلى حرمانه من العمل مدة عشرة أيام أو شهر، وقد يجلد أمام السقائين ولا يعود إلا باعتذاره لهم وتقديم الطعام.
كان فى كل دار ومنزل بئر، قد تكون حلوة يشربون منها ويغتسلون، وقد تكون مالحة فتستعمل فى التنظيف والرش أمام المنزل، لهذا كانت الشوارع نظيفة وممهدة، وفى الصيف أجواؤها باردة.
كنت فى العاشرة من عمرى فى الصف الخامس الابتدائى، وكان أخى الدكتور طلال فى السادسة من عمره، فى صباح أحد الأيام ذهبنا إلى المدرسة على أقدامنا، وخرجنا من باب السور إلى المدرسة التى تقع فى باب الشامى، وجدنا جنود الجيش وهم يتدربون، وكانوا يسيرون فى طابور تتقدمهم الموسيقى، وقائدهم حسن قواص يصدر لهم الأوامر بالسير والوقوف.
كانوا يسيرون فى خطوة عسكرية والموسيقى أمامهم تعزف لتضبط الإيقاع. لم أعجب بالجند مثلما أعجبت بالقائد الذى يصدر الأوامر ويختال فى مشيته، التفت إلى أخى طلال، وقلت له: إذا أصبحتُ مثل هذا القائد فسوف أشترى لك قلمًا.
لم يمر على هذا الحدث سوى سبع سنوات حتى وجدتنى أعمل فى المدينة، وأصبحت ملازمًا أقود الجند، وأستقبل الرؤساء والملوك وأستعرض حرس الشرف، لقد أدركت أن الأمل إذا تمثل فى هدف، وسعى الإنسان إليه فسوف يحقق هدفه الاستراتيجى.
واصلت دراستى الثانوية فى المدينة، ثم انتسبت إلى جامعة بيروت العربية فرع الإسكندرية وذلك عام ١٩٦٧، كنت فى الطائرة وأنا فى طريقى إلى بيروت يوم الجمعة وكنت أقرأ فى الطائرة صحيفة الأهرام ليوم الجمعة، وكان الأستاذ محمد حسنين هيكل قد سطر مقالًا عن النكسة، ذكر فيه أن موشى ديان أرسل رسالة إلى أبى الاستراتيجية ليدل هارت، يقول فيها «إن سبب انتصارنا على العرب أننا هنا فى إسرائيل قرأنا كل مؤلفاتك وفهمناها، والسبب فى هزيمة العرب أنهم لم يقرأوا مؤلفاتك ومن قرأها منهم لم يفهمها».
ما إن وصلت إلى بيروت ووضعت متاعى فى عمارة مواجهة للجامعة الأمريكية، حتى نزلت إلى مكتبة فيصل، وسألت صاحب المكتبة: هل لديكم كتب لـ«ليدل هارت» قال نعم، فابتعت كتابين، الأول «الاستراتيجية وتاريخها فى العالم» والثانى «الاختبار الصعب» ومن يومها تعلق قلبى بالدراسات الاستراتيجية.
فى السنة التالية أتيت إلى المكتبة وسألته عن الكتب الاستراتيجية الحديثة، فوجدت فى المكتبة كتابًا لكاتب روسى هو ستروكوف، وكان الكتاب عن فن الحرب، وكان المؤلف يحمل رتبة لواء وركن ودكتور، فوضعت هدفى أن أكون كذلك لواء وركنًا ودكتورًا، ولم تمض خمسة عشر عامًا حتى كنت كذلك.
لهذا وجدت أن من ليس له هدف استراتيجى فى الحياة، فإنه سوف يكون متسكعًا على طرقات الزمن، لأن الهدف الاستراتيجى هو الذى يطور الإنسان، والتفكير الاستراتيجى هو الذى يطور الأمم.